ويلمسهم في موضوع الإنفاق لمسات متنوعة في آية واحدة . .
وأنفقوا مما رزقناكم . . فيذكرهم بمصدر هذا الرزق الذي في أيديهم . فهو من عند الله الذي آمنوا به والذي يأمرهم بالإنفاق .
( من قبل أن يأتي أحدكم الموت . . . ) . .
فيترك كل شيء وراءه لغيره ؛ وينظر فلا يجد أنه قدم شيئا لنفسه ، وهذا أحمق الحمق وأخسر الخسران .
ثم يرجو حينئذ ويتمنى أن لو كان قد أمهل ليتصدق وليكون من الصالحين ! وأنى له هذا ? :
ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله ، ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم ، فيقول أحدهم : { رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } .
قرأ الجمهور : فاصدق وأكن بجزم أكن على محل أصدق . كان الكلام هكذا : إن أخرتني أصدَّق وأكن . وقرأ أبو عمرو وابن محيصن ومجاهد : وأكون بالنصب عطفا على أصدق ، والله أعلم ، والحمد لله وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
وقوله : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } يدخل في هذا ، النفقات الواجبة ، من الزكاة والكفارات{[1109]} ونفقة الزوجات ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة ، كبذل المال في جميع المصالح ، وقال : { مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى ، لم يكلف العباد من النفقة ، ما يعنتهم ويشق عليهم ، بل أمرهم بإخراج جزء{[1110]} مما رزقهم الله الذي يسره لهم{[1111]} ويسر لهم أسبابه .
فليشكروا الذي أعطاهم ، بمواساة إخوانهم المحتاجين ، وليبادروا بذلك ، الموت الذي إذا جاء ، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ، ولهذا قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ } متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان ، سائلاً الرجعة التي هي محال : { رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : لأتدارك ما فرطت فيه ، { فَأَصَّدَّقَ } من مالي ، ما به أنجو من العذاب ، وأستحق به جزيل الثواب ، { وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها ، واجتناب المنهيات ، ويدخل في هذا ، الحج وغيره .
{ وأنفقوا مما رزقناكم } قال ابن عباس : يريد زكاة الأموال ، { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } فيسأل الرجعة ، { فيقول رب لولا أخرتني }هلا أخرتني أمهلتني . وقيل : " لا " صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمني ، أي : لو أخرتني ، { إلى أجل قريب فأصدق } فأتصدق وأزكي مالي ، { وأكن من الصالحين } أي من المؤمنين . نظيره قوله تعالى : { ومن صلح من آبائهم }( الرعد- 23 ) ( غافر- 8 ) ، هذا قول مقاتل وجماعة . وقالوا : نزلت الآية في المنافقين . وقيل : نزلت الآية في المؤمنين . والمراد بالصلاح هنا : الحج . وروى الضحاك ، وعطية عن ابن عباس قال : ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطلق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت . وقرأ هذه الآية . وقال : { وأكن من الصالحين } قرأ أبو عمرو وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ { فأصدق } وقال : إنما حذفت الواو من المصحف اختصاراً . وقرأ الآخرون : { وأكن } بالجزم عطفاً على قوله { فأصدق } لو لم يكن فيه الفاء ، لأنه لو لم يكن فيه الفاء لكان جزماً . يعني : ( إن أخرتني أصدق وأكن ) ، ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو .
الأولى- قوله تعالى : " وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا . وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها .
الثانية- " فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا . وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت . فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله ، إنما سأل الرجعة الكفار . فقال : سأتلو عليك بذلك قرانا : " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون . وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين إلى قوله والله خبير بما تعملون " قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال{[15034]} مائتين فصاعدا . قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة .
قلت : ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) مرفوعا فقال : وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان عنده مال يبلغه الحج . . . ) الحديث ، فذكره . وقد تقدم في " آل عمران " لفظه{[15035]} .
الثالثة- قال ابن العربي : أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل ، فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين . وأما القول في الحج ففيه إشكال ؛ لأنا إن قلنا : إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء ، فلا تخرج الآية عليه . وإن قلنا : إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح ؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات . وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء . وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما يدخل في المتفق عليه . والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن ؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد .
الرابعة- قوله تعالى : " لولا " أي هلا ، فيكون استفهاما . وقيل : " لا " صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمني . " فأصدق " نصب على جواب التمني بالفاء . " وأكون " عطف على " فأصدق " وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد . وقرأ الباقون " وأكن " بالجزم عطفا على موضع الفاء ؛ لأن قوله : " فأصدق " لو لم تكن الفاء لكان مجزوما ؛ أي أصدق . ومثله : " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم{[15036]} " [ الأعراف : 186 ] فيمن جزم . قال ابن عباس : هذه الآية أشد على أهل التوحيد ؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة .
قلت : إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل ، لما يرى من الكرامة .
{ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ ( 10 ) }
وأنفقوا -أيها المؤمنون- بالله ورسوله بعض ما أعطيناكم في طرق الخير ، مبادرين بذلك من قبل أن يجيء أحدكم الموت ، ويرى دلائله وعلاماته ، فيقول نادمًا : ربِّ هلا أمهلتني ، وأجَّلت موتي إلى وقت قصير ، فأتصدق من مالي ، وأكن من الصالحين الأتقياء .
قوله : { وأنفقوا من مّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت } يعني أنفقوا من مال الله الذي أتاكم وابذلوه في وجوه الخير والطاعة كأداء الزكاة والجهاد وغير ذلك من ضروب البر والمعروف ، من قبل أن ينزل الموت بأحدكم وحينئذ يغشاه من الندامة والحسرة ما يغشاه . وذلك بسبب غفلته وتفريطه في عبادة ربه { فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } يقول حينئذ وقد عرف مصيره المخوف وأيقن أنه هالك خاسر : يا رب هلا أمهلتني فأخرت أجلي إلى أمد قريب . فهو بذلك يتمنى أن يعيده الله إلى الدنيا ليتدارك ما فاته فيها فيعمل صالحا { فأصدق وأكن من الصالحين } أي أتصدق بمالي في وجوه الخير والطاعة وأكن من أهل الصلاح والتقوى .