كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة ؛ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها ، في الجماعات الحافلة . . وإن لها لشأنا . .
إنها سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها . تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها . تتعقبها برقابة الله ، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد ، إلى الممات ، إلى البعث ، إلى الحشر ، إلى الحساب . وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة . تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا . فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا . كل نفس معدود . وكل هاجسة معلومة . وكل لفظ مكتوب . وكل حركة محسوبة . والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح . ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة ، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال .
وكل هذه حقائق معلومة . ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ؛ وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب !
وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر . وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس . وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبت ، وفي الثمر والطلع . . ( تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ) . .
وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف ، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال ، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه ؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال ، إشعاعا مباشرا للحس والضمير .
وتبدأ السورة بالقسم . القسم بالحرف : ( قاف )وبالقرآن المجيد ، المؤلف من مثل هذا الحرف . بل إنه هو أول حرف في لفظ " قرآن " . .
ولا يذكر المقسم عليه . فهو قسم في ابتداء الكلام ، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام . فالأمر جلل ، والله يبدأ الحديث بالقسم ، فهو أمر إذن له خطر . ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء . إذ يضرب بعده بحرف( بل )عن المقسم عليه - بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب - ليبدأ حديثا كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج :
سورة ق مكية وآياتها خمس وأربعون ، نزلت بعد سورة المرسلات . وهي وسورة ص تشتركان في افتتاح أولهما بحرف من حروف المعجم ، والقسم بالقرآن والتعجب ففي ص : { ص ، والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق } وهنا { ق ، والقرآن المجيد ، بل عجِبوا أن جاءهم منذر منهم . . . }
وتشتركان في الختام في نفس المعنى : فقال تعالى في ختام ص { إن هو إلا ذكر للعالمين } ، وقال آخر ق { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } . وتسمى أيضا : الباسقات .
وتشتمل السورة على أشياء كثيرة : أولها القسَم بالقرآن الكريم وتمجيده ، وتعجّب المشركين أن جاءهم رسول منهم ينذرهم ، وإنكارهم للنبوة والبعث ، ثم الحث على النظر في هذا الكون ، في السماء وزينتها وبهجة بنائها ، وفي الأرض وجبالها الشامخات ، وزروعها البهيجة ، ومطرها الغزير كيف يحيي الأرض بعد موتها ، ونخلها الباسقات ، ودولها من عاد إلى أصحاب الأيكة وقوم تبّع ، وما استحقوا من وعيد وعذاب ، وما فيها من تقريع للإنسان على سوء أعماله ، إنه مسئول عن دخائل نفسه ، ومحاط بالكرام الكاتبين ، يُحصون أعماله ، ويرقُبون أقواله ، حتى إذا جاءت سكرة الموت بالحق-كُشف له الغطاء ، ووقع الخصام ، وتعادى المحبّون ، وملئت جهنم بأهلها ، وأنعم الله على المؤمنين بالجنة ونعيمها غير المحدود { لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد } .
ثم خُتمت السورة بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكافرين الذين لم يعتبروا بمصير المكذبين من الأمم قبلهم ، وتوجيهه إلى الثبات على عبادة الله وتأكيد أمر البعث ، وأن مهمته الإرشاد وتذكير المؤمنين ، ودعوة الناس إلى القرآن الكريم ، وأنه ليس عليهم بمسيطر ، { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار ، فذكّرْ بالقرآن من يخاف وعيد } .
ولهذه السورة شأن كبير ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يخطب بها في العيد والجمعة . قالت أم هشام ابنة حارثة الأنصارية : " ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من رسول الله ، كان يقرأ بها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس " رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة . وفي القرطبي : في صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة ابن النعمان قالت : لقد كان تنوّرنا وتنوّر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض السنة وما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس .
مجيد : وافر المجد ، واسمٌ من أسماء الله الحسنى ، يقال : مجُد بضم الجيم مَجادة فهو مجيد . ويقال : مجَد بفتح الجيم يمجُد بضمها فهو ماجد . والمجد : المروءة والسخاء والكرم والشرف .
{ ق } : حرفٌ من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآنِ الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدّي وتنبيه الأذهان .
أُقسِم بالقرآن ذي المجد والشرف : إنا أرسلناك يا محمد ، لتنذرَ الناس به فلم يؤمنْ به أهلُ مكة .
{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }
يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي : وسيع المعاني عظيمها ، كثير الوجوه كثير البركات ، جزيل المبرات . والمجد : سعة الأوصاف وعظمتها ، وأحق كلام يوصف بهذا ، هذا القرآن ، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين ، الذي حوى من الفصاحة أكملها ، ومن الألفاظ أجزلها ، ومن المعاني أعمها وأحسنها ، وهذا موجب لكمال اتباعه ، و [ سرعة ] الانقياد له ، وشكر الله على المنة به .
تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويختص ق بأنه قيل : إنه من اسم الله القاهر أو القدير وقيل : هو اسم للقرآن وقيل : اسم للجبل الذي يحيط بالدنيا { والقرآن المجيد } من المجد وهو الشرف والكرم وجواب هذا القسم محذوف تقديره ما ردوا أمرك بحجة وما كذبوك ببرهان وشبه ذلك وعبر عن هذا المحذوف وقع الإضراب ببل وقيل : الجواب ما يلفظ من قول ، وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وقيل : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وهذه الأقوال ضعيفة متكلفة .