وبعد هذا المطلع الموقظ المنبه للحواس والمشاعر والعقول والضمائر ، يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر ، فإذا هو غافل لاه سادر . . هنا يلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضي ، وفيها وعيد خفي ، وفيها تذكير بنعمة الله الأولى عليه : نعمة خلقه في هذه الصورة السوية على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة تتجه إليها مشيئته . ولكنه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة . . وهو لا يشكر ولا يقدر :
( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ) . .
إن هذا الخطاب : ( يا أيها الإنسان )ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه ، وهو " إنسانيته " التي بها تميز عن سائر الأحياء ؛ وارتفع إلى أكرم مكان ؛ وتجلى فيها إكرام الله له ، وكرمه الفائض عليه .
ثم يعقبه ذلك العتاب الجميل الجليل : ( ما غرك بربك الكريم ? )يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك ، راعيك ومربيك ، بإنسانيتك الكريمة الواعية الرفيعة . . يا أيها الإنسان ما الذي غرك بربك ، فجعلك تقصر في حقه ، وتتهاون في أمره ، ويسوء أدبك في جانبه ? وهو ربك الكريم ، الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره ؛ ومن هذا الإغداق إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه ، والتي تميز بها وتعقل وتدرك ما ينبغي وما لا ينبغي في جانبه ?
{ 6 - 12 } { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }
يقول تعالى معاتبا للإنسان المقصر في حق ربه ، المتجرئ على مساخطه{[1372]} : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } أتهاونا منك في حقوقه ؟ أم احتقارا منك لعذابه ؟ أم عدم إيمان منك بجزائه ؟
قوله تعالى : " يا أيها الإنسان " خاطب بهذا منكري البعث . وقال ابن عباس : الإنسان هنا : الوليد بن المغيرة . وقال عكرمة : أبي بن خلف . وقيل : نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي . عن ابن عباس أيضا : " ما غرك بربك الكريم " أي ما الذي غرك حتى كفرت ؟ " بربك الكريم " أي المتجاوز عنك . قال قتادة : غرة شيطانه المسلط عليه . الحسن : غرة شيطانه الخبيث . وقيل : حمقه وجهله . رواه الحسن عن عمر رضي الله عنه . وروى غالب الحنفي قال : لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم " [ الانفطار : 6 ] قال : " غره الجهل " وقال صالح بن مسمار : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه قرأ " يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم " ؟ فقال : " غره جهله " . وقال عمر رضي الله عنه : كما قال الله تعالى " إنه كان ظلوما جهولا " [ الأحزاب : 72 ] . وقيل : غره عفو الله ، إذ لم يعاقبه في أول مرة . قال إبراهيم بن الأشعث : قيل : للفضيل بن عياض : لو أقامك الله تعالى يوم القيامة بين يديه ، فقال لك : " ما غرك بربك الكريم " ؟ [ الانفطار : 6 ] ماذا كنت تقول ؟ قال : كنت أقول غرني ستورك المرخاة ، لأن الكريم هو الستار . نظمه ابن السماك فقال :
يا كاتِمَ الذنبِ أما تستحي *** واللهُ في الخلوة ثَانِيكَا
غَرَّكَ من ربك إمهالُهُ *** وسَتْرُهُ طولَ مَساوِيكَا
وقال ذو النون المصري : كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر
وأنشد أبو بكر بن طاهر الأبهري :
يا مَنْ غَلاَ في العُجْبِ والتِّيهِ *** وغره طولُ تَمَادِيهِ
أَمْلَى لكَ الله فبارزته *** ولم تخف غِبَّ معاصيهِ
وروي عن علي رضي الله عنه أنه صاح بغلام له مرات فلم يلبه فنظر فإذا هو بالباب ، فقال : مالك لم تجبني ؟ فقال . لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك . فاستحسن جوابه فأعتقه . وناس يقولون : ما غرك : ما خدعك وسول لك حتى أضعت ما وجب عليك ؟ وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وسيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول له : يا ابن آدم ماذا غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟
{ يا أيها الإنسان } خطاب لجنس بني آدم .
{ ما غرك بربك الكريم } هذا توبيخ وعتاب معناه أي : شيء غرك بربك حتى كفرت به أو عصيته أو غفلت عنه فدخل في العتاب الكفار وعصاة المؤمنين ومن يغفل عن الله في بعض الأحيان من الصالحين . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ما غرك بربك الكريم فقال : " غره جهله " وقال عمر : غره جهله وحمقه وقرأ إنه كان ظلوما جهولا ، وقيل : غره الشيطان المسلط عليه ، وقيل : غره ستر الله عليه وقيل : غره طمعه في عفو الله عنه ولا تعارض بين هذه الأقوال لأن كل واحد منها مما يغر الإنسان إلا أن بعضها يغر قوما وبعضها يغر قوما آخرين فإن قيل : ما مناسبة وصفه بالكريم هنا للتوبيخ على الغرور ؟ فالجواب : أن الكريم ينبغي أن يعبد ويطاع شكرا لإحسانه ومقابلة لكرمه ومن لم يفعل ذلك فقد كفر النعمة وأضاع الشكر الواجب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.