( ومن شر غاسق إذا وقب ) . . والغاسق في اللغة الدافق ، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء . والمقصود هنا - غالبا - هو الليل وما فيه . الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة . والليل حينئذ مخوف بذاته . فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم . ومتلصص فاتك يقتحم . وعدو مخادع يتمكن . وحشرة سامة تزحف . ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل ، وتخنق المشاعر والوجدان ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء . ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام . ومن ظاهر وخاف يدب ويثب ، في الغاسق إذا وقب !
ولما كان عطف الخاص على العام يعرف بأن ذلك الخاص أولى أفراد العام بما ذكر له من الحكم ، وكان شر الأشياء الظلام ، فإنه أصل كل فساد ، وكانت شرارته مع ذلك وشرارة السحر والحسد خفية ، خصها بالذكر من بين ما عمه الخلق ؛ لأن الخفي يأتي من حيث لا يحتسب الإنسان فيكون أضر . ولذا قيل : شر العداة المداجي ، وكانت مادة " غسق " تدور على الظلام والانصباب ، فالغسق - محركة- ظلمة أول الليل ، وغسقت العين : أظلمت أو دمعت ، واللبن : انصب من الضرع ، والليل : اشتدت ظلمته ، والغسقان - محركة- : الانصباب ، والغاسق : القمر ، وكأنه سمي به لسرعة سيره وانصبابه في البروج ، ولأنه ليس له من نفسه إلا الإظلام ، والثريا - إذا سقطت - والله أعلم ، قال في القاموس : لكثرة الطواعين والأسقام عند سقوطها ، والذكر إذا قام ، كما قاله جماعة ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو سبب للجهل الذي هو ظلام كله ، فقال تعالى : { ومن شر غاسق } أي مظلم بارد منصب ظلامه وبرده سواء كان أصلاً في الظلام حسياً أو معنوياً ، أو كان حاملاً عليه مثل الذكر إذا قام لما يجر إليه من الوساوس الرديئة لغلبة الشهوة واستحكام سلطان الهوى ، ومثل القمر لما يحدث منه من الرطوبات المفسدة للأبدان ، وغير ذلك انصباباً له غاية القوة ، كانصباب ما يفيض عن امتلاء في انحدار ، ونكّره إشارة إلى أنه ليس كل غاسق مذموماً ، والله أعلم .
ولما كان الشيء الذي اتصف بالظلام يكثف فيشتد انصبابه وأخذه في السفول إلى أن يستقر ويستحكم فيما صوب إليه مجتمعاً جداً ، كاجتماع الشيء في الوقبة ، وهي النقرة في الصخرة ، وكان الظلام لا يشتد أذاه إلا إذا استقر وثبت ، قال معبراً بأداة التحقق : { إذا وقب * } أي اعتكر ظلامه ، ودخل في الأشياء بغاية القوة كمدخول الثقيل الكثيف المنصب في النقرة التي تكون كالبئر في الصخرة الصماء الملساء ، وهذا إشارة إلى أنه يسهل علاجه وزواله قبل تمكنه ، وفي الحديث " لما رأى الشمس قد وقبت قال : هذا حين حلها " ، يعني صلاة المغرب ، وفيه عند أبي يعلى أنه قال لعائشة رضي الله تعالى عنها عن القمر : " تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب " ، وأكثر الأقوال أنه الليل ، خص بالاستعاذة ؛ لأن المضار فيه تكثر ويعسر دفعها ، وأصل الغسق الظلام ، ويلزم منه الامتلاء ، وقيل : إن الامتلاء هو الأصل ، وأصل الوقوب الدخول في وقبة ، أو ما هو كالوقبة ، وهي النقرة .
ولما كان السحر أعظم ما يكون من ظلام الشر المستحكم في العروق الداخل في وقوبها ، لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ، ونحو ذلك ، وما فيه من ضنى الأجسام ، وقتل النفوس ، عقب ذلك بقوله تعالى : { ومن شر } .
قوله : { ومن شر غاسق إذا وقب } الغاسق : الليل إذا هجم ظلامه . ووقب : أي دخل . والمعنى : أعوذ برب كل شيء من شر الليل إذا أقبل على الناس بظلامه . فإنه في مثل هذا الوقت من سواد الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوام من جحورها ، وينفلب الأشرار ليعيثوا في الأرض الفساد . ومن أجل ذلك أمر الله نبيه أن يستعيذ بربه ورب كل شيء مما حواه الليل من أسباب الأذى والشر والمكروه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.