ثم يكمل رسم هيئتهم : ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ) . . هؤلاء المتكبرون المتبجحون . والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة . وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة : ( سنسمه على الخرطوم ) . . فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود !
وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل ، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار : ( وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) . . قادرون على السجود . فكانوا يأبون ويستكبرون . . كانوا . فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل . والدنيا وراءهم . وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون !
قوله تعالى : " خاشعة أبصارهم " أي ذليلة متواضعة ، ونصبها على الحال . " ترهقهم ذلة " وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج . وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سوادا من القار .
قلت : معنى حديث أبي موسى وابن مسعود ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وغيره .
" وقد كانوا يدعون إلى السجود " أي في الدنيا . " وهم سالمون " معافون أصحاء . قال إبراهيم التيمي : أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبونه . وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حي على الفلاح فلا يجيبون . وقال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات . وقيل : أي بالتكليف الموجه عليهم في الشرع ، والمعنى متقارب . وقد مضى في سورة " البقرة " الكلام في وجوب صلاة الجماعة{[15272]} . وكان الربيع بن خيثم قد فُلِج وكان يهادى{[15273]} بين الرجلين إلى المسجد ، فقيل : يا أبا يزيد ، لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة . فقال : من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا . وقيل لسعيد بن المسيب : إن طارقا يريد قتلك فتغيب . فقال : أبحيث لا يقدر الله علي ؟ فقيل له : اجلس في بيتك . فقال : أسمع حي على الفلاح ، فلا أجيب !
ولما كان ربما ظن ظان أن المانع لهم{[67687]} الكبر كما في هذه الدنيا ، قال مبيناً لنفي الكبر في مثل هذا اليوم العظيم { خاشعة } أي مخبتة متواضعة { أبصارهم } لأن ما في القلب يعرف في العين ، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أضوأ من الشمس ، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة .
ولما كان الخاشع لذلك قد يكون خشوعه لخير عنده حمله على ذلك مع{[67688]} العز قال : { ترهقهم } أي تغشاهم وتقهرهم { ذلة } أي عظيمة لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها سبحانه وتعالى ليتقربوا بها إليه في دار العمل في التمتع بما يبعد منه .
ولما دلت هذه العبارة مطابقة لما ورد في الحديث الصحيح على أن من كان في قلبه مرض في الدنيا يصير ظهره طبقاً واحداً{[67689]} فقارة واحدة فيعالج السجود فيصير كلما أراده انقلب لقفاه ، عجب منهم في ملازمة الظلم الذي هو إيقاع الشيء{[67690]} في غير موقعه فقال : { وقد } أي والحال أنهم { كانوا } أي دائماً بالخطاب الثابت { يدعون } في الدنيا من كل داع يدعو إلينا { إلى السجود وهم } أي فيأبونه{[67691]} والحال أنهم { سالمون * } أي{[67692]} فهم{[67693]} مستطيعون ، ليس في أعضائهم ما يمنع من ذلك ، وإنما يمنعهم منه الشماخة والكبر ، فالآية من الاحتباك{[67694]} : ذكر عدم الاستطاعة أولاً دال على حذف الاستطاعة ثانياً ، وذكر السلامة ثانياً دال على حذف عدم السلامة أولاً .
قوله : { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة } خاشعة ، منصوب على الحال من ضمير { يدعون } . وأبصارهم مرفوع على الفاعلية{[4604]} .
يعني أبصارهم خاضعة ذليلة قد غشيها الذل والندم والاستيئاس { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } كانوا يدعون إلى الصلاة في الدنيا وهم أصحاب معافون لا يمنعهم من ذلك مانع فيدعون يوم القيامة إلى السجود فلا يستطيعون . وقال ابن عباس : هم الكفار يدعون في الدنيا وهم آمنون فاليوم يدعوهم وهم خائفون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.