ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم ، ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم :
( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ? ليقولن الله . قل . أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ? أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل : حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ) . .
لقد كانوا يقررون - حين يسألون - أن الله هو خالق السماوات والأرض . وما تملك فطرة أن تقول غير هذا ، وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا . فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعاً بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة . . إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض . فهل يملك أحد أو شيء في هذه
السماوات والأرض أن يكشف ضراً أراد الله أن يصيب به عبداً من عباده ? أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبداً من عباده ?
والجواب القاطع : أن لا . . فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله ? ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه ? وليس أحد بكاشف الضر عنه ? وليس أحد بمانع الرحمة عنه ? وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه ?
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه . وقد انقطع الجدل . وانقطع الخوف وانقطع الأمل . إلا في جناب الله سبحانه . فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده :
( قل : حسبي الله . عليه يتوكل المتوكلون ) . .
ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين . الطمأنينة التي لا تخاف . والثقة التي لا تقلق . واليقين الذي لا يتزعزع . والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق :
بعد أن بين الله تعالى حال المؤمنين في الجنة ، حيث يتمتعون بنعيمها ويؤتيهم الله ما يشاؤون ، يؤكد هنا أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمَّهم ، ولا يضيرهم ما يخوّفهم به المشركون من غضب الأوثان وما يعبدون من آلهة مزيفة . فالأمور كلها بيد الله . كذلك بيّن أن قول المشركين يخالف فعلهم ، فحين تسألهم : من خلق السموات والأرض ؟ يقولون : الله ، وهم مع ذلك يعبدون غيره .
ثم يسألهم سؤال تعجيز : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ؟ } كلا ، طبعا . وما دامت هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ، فقل يا محمد : { قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } .
قرأ أبو عمرو والكسائي عن أبي بكر : { كاشفاتٍ ضره . . . . ممسكاتٍ رحمته } بتنوين كاشفات وممسكات ونصب ضره ورحمته ، والباقون بالإضافة كشافات ضره . . .
قوله تعالى : " ولئن سألتهم " أي ولئن سألتهم يا محمد " من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " بين أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو الله ، وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بآلهتهم التي هي مخلوقة لله تعالى ، وأنت رسول الله الذي خلقها وخلق السماوات والأرض . " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله " أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا " أفرأيتم ما تدعون من دون الله " " إن أرادني الله بضر " بشدة وبلاء " هل هن كاشفات ضره " يعني هذه الأصنام " أو أرادني برحمة " نعمة ورخاء " هل هن ممسكات رحمته " قال مقاتل : فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا . وقال غيره : قالوا لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع . فنزلت : " قل حسبي الله " ترك الجواب لدلالة الكلام عليه ؛ يعني فسيقولون لا أي لا تكشف ولا تمسك{[13310]} ف " قل " أنت " حسبي الله " أي عليه توكلت أي اعتمدت و " عليه يتوكل المتوكلون " يعتمد المعتمدون . وقد تقدم الكلام{[13311]} في التوكل .
وقرأ نافع وابن كثير والكوفيون ما عدا عاصما " كاشفات ضره " بغير تنوين . وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم " هل هن كاشفات ضره " . " ممسكات رحمته " بالتنوين على الأصل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ لأنه اسم فاعل في معنى الاستقبال ، وإذا كان كذلك كان التنوين أجود . قال الشاعر :
الضاربونَ عُمَيْراً عن بيوتهم *** بالليل يوم عمير ظالمٌ عادي
ولو كان ماضيا لم يجز فيه التنوين ، وحذف التنوين على التحقيق ، فإذا حذفت التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة . وحذف التنوين كثير في كلام العرب موجود حسن ، قال الله تعالى : " هديا بالغ الكعبة " [ المائدة : ] وقال : " إنا مرسلو الناقة " [ القمر :27 ] قال سيبويه : ومثل ذلك " غير محلي الصيد " [ المائدة : 1 ] وأنشد سيبويه :
هل أنت باعثُ دينارٍ لحاجتنا *** أو عَبْدَ ربٍّ أخا عَوْنِ بنِ مِخْرَاقِ
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت *** إلى حَمَامٍ شَرَاعٍ وارِدِ الثَّمَدِ{[13312]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.