( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا ) . .
( ناشئة الليل )هي ما ينشأ منه بعد العشاء ؛ والآية تقول : ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ ) : أي أجهد للبدن ، ( وأقوم قيلا ) : أي أثبت في الخير [ كما قال مجاهد ] فإن مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش ، بعد كد النهار ، أشد وطأ وأجهد للبدن ؛ ولكنها إعلان لسيطرة الروح ، واستجابة لدعوة الله ، وإيثار للأنس به ، ومن ثم فإنها أقوم قيلا ، لأن للذكر فيها حلاوته ، وللصلاة فيها خشوعها ، وللمناجاة فيها شفافيتها . وإنها لتسكب في القلب أنسا وراحة وشفافية ونورا ، قد لا يجدها في صلاة النهار وذكره . . والله الذي خلق هذا القلب يعلم مداخله وأوتاره ، ويعلم ما يتسرب إليه وما يوقع عليه ، وأي الأوقات يكون فيها أكثر تفتحا واستعدادا وتهيؤا ، وأي الأسباب أعلق به وأشد تأثيرا فيه .
والله - سبحانه - وهو يعد عبده ورسوله محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] ليتلقى القول الثقيل ، وينهض بالعبء الجسيم ، اختار له قيام الليل ، لأن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . ولأن له في النهار مشاغله ونشاطه الذي يستغرق كثيرا من الطاقة والالتفات :
قوله جلّ ذكره : { إِنَّ نَاشِئَةَ الَّليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } .
أي : ساعات الليل ، فكلُّ ساعةٍ تحدث فهي ناشئة ، وهي أشد وطئاً أي : مُوَطَّأة أي : هي أشدُّ موافقةً للسانِ والقلبِ ، وأشدُّ نشاطاً .
ويحتمل :هي أشدُ وأغلظُ على الإنسان من القيام بالنهار .
{ وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي : أَبْيَنُ قولاً .
ويقال : هي أشدُّ مواطأةً للقلب وأقوم قيلاً لأنها أبعدُ من الرياء ، ويكون فيها حضورُ القلبِ وسكونُ السِّرِّ أبلغَ وأتمِّ .
ناشئة الليل : العبادة التي تنشأ به وتحدث ، أو إحياء ما بين المغرب والعشاء ، أو إحياء الساعات التالية لصلاة العشاء .
أشد وطئا : ثباتا للقدم ، ورسوخا في العبادة ، وقيل : أكثر مواطأة وتوافقا بين القلب واللسان .
أقوم قيلا : أثبت قراءة لحضور القلب فيها .
2- إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا .
ناشئة الليل . ساعات الليل ، وقيل : الصلاة بين المغرب والعشاء ، وقيل : ناشئة الليل هي الساعات التي تلي صلاة العشاء ، وقيل : هي الثلث الأخير من الليل .
وفي الصحيح : ( ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : يا عبادي ، هل من داع فأستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له ، هل من تائب فأتوب عليه ، هل من طالب حاجة فأقضيها له ، حتى يطلع الفجر ) . v .
وقيل : ناشئة الليل هي جميع ساعات الليل وأوقاته ، حيث جعل الله ليلا سباتا ، ونوما وراحة ، فقيام المؤمن يصلّي في ظلام الليل ، وقد غارت النجوم ، ونامت العيون ، وبقي الله الحي القيوم ، يجعل لهذه الصلاة مذاقا خاصّا ، حيث يترك المؤمن فراشه ويتجافى عنه ، ويدعو ربه .
كما قال تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون* فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون . ( السجدة : 16 ، 17 ) .
وقال تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون . ( الذاريات : 17 ، 19 ) .
وفي الحديث الشريف : ( عليكم بقيام الليل ، فإنه دأب الصالحين قبلكم ، ومطردة للدّاء عن الجسد ) . vi .
وقيام الليل يكون سببا في نور القبور على أصحابها ، وفي قيام الليل صفاء وهدوء وراحة وسعادة ، وموافقة القلب للسان ، وتغلّب على الخلود إلى النوم .
إن ناشئة الليل . ما ينشأ في ساعات الليل بعد العشاء .
هي أشدّ وطئا . أجهد للبدن ، أو أشد مواطأة وموافقة بين القلب واللسان .
وأقوم قيلا . أثبت وأبين قولا لهدوء الأصوات ، وانقطاع الحركات ، وذلك أعون للنفس على التدبّر والتأمل في أسرار القرآن ومقاصده .
{ إن ناشئة الليل } أي إن العبادة التي تحدث في الليل{ هي أشد وطأ } ثباتا في القلب ورسوخا فيه . { وأقوم قيلا } أبين قولا ، وأشد مقالا ، وأصوب قراءة من عبادة النهار ؛ لحضور القلب ، وهدوء الأصوات والحركة بالليل ؛ وذلك أجمع للفكرة ، وأبعث على التأمل والاستفادة . وقيل الناشئة : النفس المتهجّدة التي تنشأ من مضجعها – أي تنهض – إلى العبادة ؛ من نشأ من مكانه ونشر : إذا نهض . أو هي ساعات الليل وأوقاته ؛ لأنها تنشأ واحدة بعد واحدة ، أي متعاقبة . والمراد : الحث على الاستدامة على هذه العبادة الليلية ، والترغيب فيها بذكر مزاياها وآثارها في ترويض النفوس وشحذ القوى ؛ استعدادا للقيام بما سيشرع من التكاليف .
ناشئةَ الليل : الاستيقاظ من النوم والقيام للصلاة .
وأقومُ قيلا : أثبتُ قراءة وأصوب ، لحضور القلب وهدوء الأصوات .
ثم بيّن له بوضوحٍ أن الصلاةَ بالليل والنهوضَ للعبادة شديدُ الوطأة ، ولكنّه أقْوَمُ وأثبتُ لقراءة القرآن ، لِحضورِ القلب ، ولأن الليلَ تهدأ فيه الأصواتُ وتنقطعُ الحركة ، فيكون الذهنُ أجْمَعَ ، والنفسُ أصفَى للتدبُّر والتأمل في أسرار القرآن الكريم .
قرأ ابن عامر وأبو عمرو : وطاء بكسر الواو وفتح الطاء وبعدها ألف . والفعل واطأ يواطئ مواطأة ووطاء . وقرأ الباقون : وطئا بفتح الواو وسكون الطاء . والفعل وطئ وطئا .
{ إن ناشئة الليل } : أي ساعة الليل من صلاة العشاء فما فوق كل ساعة تُسمى ناشئة .
{ هي أشد وطئاً } : أي هي أقوى موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن فيها .
{ وأقوم قيلا } : أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة النهار لسكون الأصوات .
وقوله { إن ناشئة الله هي أشد وطئا وأقوم قيلا } يخبر تعالى مُعلما أن ساعات الليل من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل القيام فيها يجعل السمع يواطيء القلب على فهم معاني القرآن الذي يقرأه المصلي ، وقوله وأقوم قيلا أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة الصلاة في النهار .
- صلاة الليل أفضل من صلاة النهار لتواطئ السمع والقلب فيها على فهم القرآن .
ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل ، فقال : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ } أي : الصلاة فيه بعد النوم { هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } أي : أقرب إلى تحصيل{[1260]} مقصود القرآن ، يتواطأ على القرآن{[1261]} القلب واللسان ، وتقل الشواغل ، ويفهم ما يقول ، ويستقيم له أمره ، وهذا بخلاف النهار ، فإنه لا يحصل به هذا المقصود{[1262]} ، ولهذا قال :{ إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا }