وبعد الإنذار والتهديد يعود السياق إلى استثناء بعض المحارم الذين لا حرج على نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في أن يظهرن عليهم :
( لا جناح عليهن في آبائهن ، ولا أبنائهن ، ولا إخوانهن ، ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن ، ولا نسائهن ، ولا ما ملكت أيمانهن . واتقين الله . إن الله كان على كل شيء شهيدا ) . .
وهؤلاء المحارم هم الذين أبيح لنساء المسلمين عامة أن يظهرن عليهم . . ولم أستطع أن أتحقق أي الآيات كان أسبق في النزول ؛ الآية الخاصة بنساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هنا ، أم الآية العامة لنساء المسلمين جميعا في سورة النور . والأرجح أن الأمر كان خاصا بنساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ثم عمم . فذلك هو الأقرب إلى طبيعة التكليف . و لا يفوتنا أن نلحظ هذا التوجيه إلى تقوى الله ، والإشارة إلى اطلاعه على كل شيء : ( واتقين الله ، إن الله كان على كل شيء شهيدا ) . فالإيحاء بالتقوى ومراقبة الله يطرد في مثل هذه المواضع ، لأن التقوى هي الضمان الأول والأخير ، وهي الرقيب اليقظ الساهر على القلوب .
{ 55 } { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا }
لما ذكر أنهن لا يسألن متاعًا إلا من وراء حجاب ، وكان اللفظ عامًا [ لكل أحد ]{[720]} احتيج أن يستثنى منه هؤلاء المذكورون ، من المحارم ، وأنه { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ } في عدم الاحتجاب عنهم .
ولم يذكر فيها الأعمام ، والأخوال ، لأنهن إذا لم يحتجبن عمن هن عماته ولا{[721]} خالاته ، من أبناء الإخوة والأخوات ، مع رفعتهن عليهم ، فعدم احتجابهن عن عمهن وخالهن ، من باب أولى ، ولأن منطوق الآية الأخرى ، المصرحة بذكر العم والخال ، مقدمة ، على ما يفهم من هذه الآية .
وقوله { وَلَا نِسَائِهِنَّ } أي : لا جناح عليهن ألا يحتجبن عن نسائهن ، أي : اللاتي من جنسهن في الدين ، فيكون ذلك مخرجًا لنساء الكفار ، ويحتمل أن المراد جنس النساء ، فإن المرأة لا تحتجب عن المرأة . { وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ما دام العبد في ملكها جميعه .
ولما رفع الجناح عن هؤلاء ، شرط فيه وفي غيره ، لزوم تقوى اللّه ، وأن لا يكون في محذور شرعي فقال : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } أي : استعملن تقواه في جميع الأحوال { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } يشهد أعمال العباد ، ظاهرها وباطنها ، ويسمع أقوالهم ، ويرى حركاتهم ، ثم يجازيهم على ذلك ، أتم الجزاء وأوفاه .
ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله ، ونحن أيضاً يا رسول الله نكلمهن من وراء الحجاب ؟ فأنزل الله : { لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن } أي : لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء ، { ولا نسائهن } قيل : أراد به النساء المسلمات ، حتى لا يجوز للكتابيات الدخول عليهن ، وقيل : هو عام في المسلمات والكتابيات ، وإنما قال : ولا نسائهن لأنهن من أجناسهن ، { ولا ما ملكت أيمانهن } . واختلفوا في أن عبد المرأة هل يكون محرماً لها أم لا ؟ فقال قوم : يكون محرماً لقوله عز وجل : { ولا ما ملكت أيمانهن } وقال قوم : هو كالأجانب ، والمراد من الآية الإماء دون العبيد . { واتقين الله }أن يراكن غير هؤلاء ، { إن الله كان على كل شيء } من أعمال العباد { شهيداً }
ولما كان المقصود كما تقدم تغليظ الحجاب على ذوات الخدور ، وكان قد ذكر في هذه السورة خصائص وتغيير أحكام للنبي صلى الله عليه وسلم ولأزواجه رضي الله عنهن ولغيرهم ، كان ربما ظن أن الحجاب تغير أو شيء منه بالنسبة إلى الدخول أو غيره ، فاستثنى من عمّه النهي السابق عن الدخول على وجه يعم جميع النساء على نحو ما تقدم في سورة النور فقال : { لا جناح } أي إثم { عليهن في آبائهن } دخولاً وخلوة من غير حجاب ، والعم والخال وأبو الزوج بمصير الزوجين كالشيء الواحد بمنزلة الوالد{[55995]} { ولا أبنائهن } أي من{[55996]} البطن أو الرضاعة ، وابن الزوج بمنزلة الولد ، وترك ذكرهم يفهم أن الورع الحجاب عنهم { ولا إخوانهن } لأن عارهن عارهم { ولا أبناء إخوانهن } فإنهن{[55997]} بمنزلة آبائهم { ولا أبناء أخواتهن } فإنهن{[55998]} بمنزلة أمهاتهم{[55999]} { ولا نسائهن } أي المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة ، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال { ولا ما ملكت أيمانهن } لأنهم{[56000]} لما لهن عليهم من السلطان تبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم{[56001]} .
ولما كانت الريبة ليست مقطوعاً بنفيها ، وكانت من جهة النساء أكثر ، لأنه لا يكاد رجل يتعرض إلا لمن{[56002]} ظن بها الإجابة لما يرى من مخايلها أو مخايل أشكالها ، أقبل عليهن بالخطاب لأنه أوقع في النفس ، فقال آمراً عاطفاً على ما تقديره : فأظهرن على من شئتن من هؤلاء : { واتقين الله } أي الذي لا أعظم منه ، فلا تقربن شيئاً مما يكرهه ، وطوى ما عطف عليه الأمر بالتقوى بعد أن ساق نفي الجناح في أسلوب الغيبة ، وأبرز الأمر بها وجعله في أسلوب الخطاب إيذاناً بأن الورع ترك الظهور على أحد غير من يملك التمتع ، فإن دعت حاجة كان مع الظهور حجاب كثيف{[56003]} من الاحتشام والأدب التام .
ولما كان الخوف لا يعظم إلا ممن كان حاضراً مطلقاً ، قال معللاً مؤكداً تنبيهاً على أن فعل من يتهاون{[56004]} في شيء من أوامره فعل من لا يتقي ، ومن لا يتقي كمن يظن أنه سبحانه غير مطلع عليه : { إن الله } أي العظيم الشأن { كان } أزلاً وأبداً { على كل شيء } من أفعالكن وغيرها ، ولمزيد الاحتياط والورع في ذلك عبر{[56005]} بقوله : { شهيداً * } أي لا يغيب عنه شيء وإن دق ، فهو مطلع عليكن حال الخلوة ممن ذكر ، كما هو مطلع على غير{[56006]} ذلك فليحذره كل أحد في{[56007]} حال الخلوة كما يحذره في حال الجلوة{[56008]} ، فيا لها من عظمة باهرة ، سطوة ظاهرة قاهرة ، يحق لكل أحد أن يبكي منها الدماء فضلاً عن الدموع ، وأن تمنعه مريح القرار ولذيذ الهجوع ، روى البخاري{[56009]} عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أستأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس رضي الله عنه بعد ما أنزل الحجاب ، فقلت : لا آذن له حتى استأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإن{[56010]} أخاه أبا{[56011]} القعيس ليس هو أرضعني و{[56012]} لكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فدخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ! إن أفلح أخا أبي القعيس{[56013]} استأذن فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما يمنعك{[56014]} ؟ قلت : يا رسول الله ! إن الرجل ليس هو أرضعني ، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فقال : ائذني له فإنه عمك تربت يمينك ، قال عروة : فلذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول : حرموا من الرضاعة{[56015]} ما تحرموا من النسب " .