ويلمسهم في موضوع الإنفاق لمسات متنوعة في آية واحدة . .
وأنفقوا مما رزقناكم . . فيذكرهم بمصدر هذا الرزق الذي في أيديهم . فهو من عند الله الذي آمنوا به والذي يأمرهم بالإنفاق .
( من قبل أن يأتي أحدكم الموت . . . ) . .
فيترك كل شيء وراءه لغيره ؛ وينظر فلا يجد أنه قدم شيئا لنفسه ، وهذا أحمق الحمق وأخسر الخسران .
ثم يرجو حينئذ ويتمنى أن لو كان قد أمهل ليتصدق وليكون من الصالحين ! وأنى له هذا ? :
وقوله : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } يدخل في هذا ، النفقات الواجبة ، من الزكاة والكفارات{[1109]} ونفقة الزوجات ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة ، كبذل المال في جميع المصالح ، وقال : { مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى ، لم يكلف العباد من النفقة ، ما يعنتهم ويشق عليهم ، بل أمرهم بإخراج جزء{[1110]} مما رزقهم الله الذي يسره لهم{[1111]} ويسر لهم أسبابه .
فليشكروا الذي أعطاهم ، بمواساة إخوانهم المحتاجين ، وليبادروا بذلك ، الموت الذي إذا جاء ، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ، ولهذا قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ } متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان ، سائلاً الرجعة التي هي محال : { رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : لأتدارك ما فرطت فيه ، { فَأَصَّدَّقَ } من مالي ، ما به أنجو من العذاب ، وأستحق به جزيل الثواب ، { وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها ، واجتناب المنهيات ، ويدخل في هذا ، الحج وغيره .
{ وأنفقوا مما رزقناكم } قال ابن عباس : يريد زكاة الأموال ، { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } فيسأل الرجعة ، { فيقول رب لولا أخرتني }هلا أخرتني أمهلتني . وقيل : " لا " صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمني ، أي : لو أخرتني ، { إلى أجل قريب فأصدق } فأتصدق وأزكي مالي ، { وأكن من الصالحين } أي من المؤمنين . نظيره قوله تعالى : { ومن صلح من آبائهم }( الرعد- 23 ) ( غافر- 8 ) ، هذا قول مقاتل وجماعة . وقالوا : نزلت الآية في المنافقين . وقيل : نزلت الآية في المؤمنين . والمراد بالصلاح هنا : الحج . وروى الضحاك ، وعطية عن ابن عباس قال : ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطلق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت . وقرأ هذه الآية . وقال : { وأكن من الصالحين } قرأ أبو عمرو وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ { فأصدق } وقال : إنما حذفت الواو من المصحف اختصاراً . وقرأ الآخرون : { وأكن } بالجزم عطفاً على قوله { فأصدق } لو لم يكن فيه الفاء ، لأنه لو لم يكن فيه الفاء لكان جزماً . يعني : ( إن أخرتني أصدق وأكن ) ، ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو .
الأولى- قوله تعالى : " وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا . وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها .
الثانية- " فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا . وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت . فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله ، إنما سأل الرجعة الكفار . فقال : سأتلو عليك بذلك قرانا : " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون . وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين إلى قوله والله خبير بما تعملون " قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال{[15034]} مائتين فصاعدا . قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة .
قلت : ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) مرفوعا فقال : وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان عنده مال يبلغه الحج . . . ) الحديث ، فذكره . وقد تقدم في " آل عمران " لفظه{[15035]} .
الثالثة- قال ابن العربي : أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل ، فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين . وأما القول في الحج ففيه إشكال ؛ لأنا إن قلنا : إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء ، فلا تخرج الآية عليه . وإن قلنا : إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح ؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات . وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء . وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما يدخل في المتفق عليه . والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن ؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد .
الرابعة- قوله تعالى : " لولا " أي هلا ، فيكون استفهاما . وقيل : " لا " صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمني . " فأصدق " نصب على جواب التمني بالفاء . " وأكون " عطف على " فأصدق " وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد . وقرأ الباقون " وأكن " بالجزم عطفا على موضع الفاء ؛ لأن قوله : " فأصدق " لو لم تكن الفاء لكان مجزوما ؛ أي أصدق . ومثله : " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم{[15036]} " [ الأعراف : 186 ] فيمن جزم . قال ابن عباس : هذه الآية أشد على أهل التوحيد ؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة .
قلت : إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل ، لما يرى من الكرامة .
ولما حذر من الإقبال على الدنيا ، رغب في بذلها مخالفة للمنافقين فقال : { وأنفقوا } أي ما أمرتم{[65591]} به من واجب أو مندوب ، وزاد في الترغيب بالرضى منهم باليسير مما هو{[65592]} كله له بقوله : { من ما رزقناكم } أي من عظمتنا وبلغ النهاية في ذلك بالرضا بفعل ما أمر به {[65593]}مع التوبة{[65594]} النصوح في زمن ما ولو قل بما أرشد إليه إثبات الجار ، فقال مرغباً {[65595]}في التأهب{[65596]} للرحيل والمبادرة لمباغتة الأجل ، محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة : { من قبل } وفك المصدر ليفيد " أن " مزيد القرب فقال{[65597]} : { أن يأتي } ولما كان تقديم المفعول كما تقدم في النساء أهول قال : { أحدكم الموت } أي{[65598]} برؤية دلائله وأماراته ، وكل لحظة مرت فهي من دلائله وأماراته . ولما كانت الشدائد تقتضي الإقبال{[65599]} على الله{[65600]} ، سبب عن ذلك بقوله : { فيقول } سائلاً في الرجعة ، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله : { رب{[65601]} لولا } أي هل{[65602]} لا ولم لا { أخرتني } أي أخرت موتي إمهالاً لي { إلى أجل } أي زمان ، وبين أن مراده استدراك ما فات ليس إلا بقوله : { قريب فأصدق } أي للتزود في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله ، قال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء{[65603]} : قال بعض العارفين : إن ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة ، وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدو للعبد من الأسف والحسرة مما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه ، يقول : يا ملك الموت ! أخرني يوماً {[65604]}أعتذر فيه{[65605]} إلى ربي وأتوب وأتزود فيها صالحاً لنفسي ، فيقول{[65606]} : فنيت الساعات فلا ساعة ، فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه وتردد أنفاسه في شراسيفه ويتجرع غصة البأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر ، فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال ، فإذا زهقت نفسه فإن كان{[65607]} سبقت له من{[65608]} الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد ، فذلك حسن الخاتمة ، وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله تعالى خرجت روحه على الشك والاضطراب ، وذلك سوء الخاتمة{[65609]} ، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين{[65610]} خطرين عظيمين : أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو ، الثاني أن يعاجله{[65611]} المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ، فيأتي الله تعالى بقلب غير سليم ، والقلب أمانة الله عند عبده ، قال بعض العارفين : إن لله تعالى إلى عبده سرين على سبيل الإلهام : أحدهما إذا خرج من{[65612]} بطن أمه يقول له : عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر كيف تلقاني ، والثاني عند خروج روحه يقول : عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك{[65613]} هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء أو أضعتها فألقاك{[65614]} بالمطالبة والعذاب .
ولعله أدغم تاء التفعل إشارة إلى أنه إذا أخر{[65615]} فعل ذلك على وجه الإخفاء ليكون أفضل ، أو يكون إدغامها اختصاراً لبلوغ الأمر إلى حد محوج إلى{[65616]} الإيجاز في القول كما طلب في الزمن ، ويؤيده قراءة الجماعة{[65617]} غير{[65618]} أبي عمرو { وأكن } بالجزم عطفاً على الجواب الذي هدى السياق إلى تقديره ، فإن حال هذا الذي{[65619]} أشرف هذا الإشراف يقتضي أن يكون أراد إن " أخرتني أتصدق " ولكنه حذفه لضيق المقام عنه واقتضاء الحال لحذفه ، وهو{[65620]} معنى ما حكاه سيبويه عن الخليل أن الجزم على توهم الشرط الذي دل{[65621]} عليه التمني على الموضع ، فإن الجازم غير موجود ، ومعنى ما قال غيره أن " لولا " لكونها تحضيضية متضمنة معنى الأمر ومعنى الشرط ، فكأنه قيل : أخرني ، فيكون جوابه العاري عن الفاء مجزوماً لفظاً والمقرون بها مجزوماً{[65622]} محلاً ف " اكن " عطف على المحل ، ونصب أبو عمرو عطفاً على اللفظ لأنه جواب التمني الذي دلت عليه " لولا " وإجماع المصاحف على حذف الواو لا يضره لأنه قال : إنها{[65623]} للاختصار ، وهو ظاهر ، وذلك للمناسبة بين اللفظ والخط والزمان والمراد ، ومن هنا تعرف جلالة القراء ومرادهم إن شاء الله تعالى بقولهم في الضابط المشهور وإن توافق رسم المصحف{[65624]} ولو احتمالاً { من الصالحين * } أي العريقين في هذا الوصف العظيم ،