في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

والآن تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد ، وعلمه الذي لا يحد ، وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية ، ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد :

ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، ما نفدت كلمات الله . إن الله عزيز حكيم . ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . إن الله سميع بصير . .

إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة ، ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود ؛ والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل .

إن البشر يكتبون علمهم ، ويسجلون قولهم ، ويمضون أوامرهم ، عن طريق كتابتها بأقلام - كانت تتخذ من الغاب والبوص - يمدونها بمداد من الحبر ونحوه . لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة ! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاما . و جميع ما في الأرض من بحر تحول مدادا . بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك . . وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة ، الدالة على علمه ، المعبرة عن مشيئته . . فماذا ? لقد نفدت الأقلام ونفد المداد . نفدت الأشجار ونفدت البحار . . و كلمات الله باقية لم تنفد ، ولم تأت لها نهاية . . إنه المحدود يواجه غير المحدود . ومهما يبلغ المحدود فسينتهي ؛ ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئا على الإطلاق . . إن كلمات الله لا تنفد ، لأن علمه لا يحد ، ولأن إرادته لا تكف ، ولأن مشيئته - سبحانه - ماضية ليس لها حدود ولا قيود .

وتتوارى الأشجار والبحار ، وتنزوي الأحياء والأشياء ؛ وتتوارى الأشكال والأحوال . ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب ؛ وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم : إن الله عزيز حكيم . .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

ثم أخبر عن سعة كلامه وعظمة قوله ، بشرح يبلغ من القلوب كل مبلغ ، وتنبهر له العقول ، وتحير فيه الأفئدة ، وتسيح في معرفته أولو الألباب والبصائر ، فقال : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } يكتب بها { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } مدادا يستمد بها ، لتكسرت تلك الأقلام ولفني ذلك المداد ، و لم تنفد { كَلِمَاتُ اللَّهِ } تعالى ، وهذا ليس مبالغة لا حقيقة له ، بل لما علم تبارك وتعالى ، أن العقول تتقاصر عن الإحاطة ببعض صفاته ، وعلم تعالى أن معرفته لعباده ، أفضل نعمة ، أنعم بها عليهم ، وأجل منقبة حصلوها ، وهي لا تمكن على وجهها ، ولكن ما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، فنبههم تعالى تنبيها تستنير به قلوبهم ، وتنشرح له صدورهم ، ويستدلون بما وصلوا إليه إلى ما لم يصلوا إليه ، ويقولون كما قال أفضلهم وأعلمهم بربه : " لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " وإلا ، فالأمر أجل من ذلك وأعظم .

وهذا التمثيل من باب تقريب المعنى ، الذي لا يطاق الوصول إليه إلى الأفهام والأذهان ، وإلا فالأشجار ، وإن تضاعفت على ما ذكر ، أضعافا كثيرة ، والبحور لو امتدت{[673]}  بأضعاف مضاعفة ، فإنه يتصور نفادها وانقضاؤها ، لكونها مخلوقة .

وأما كلام اللّه تعالى ، فلا يتصور نفاده ، بل دلنا الدليل الشرعي والعقلي ، على أنه لا نفاد له ولا منتهى ، وكل شيء ينتهي إلا الباري وصفاته { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى }

وإذا تصور العقل حقيقة أوليته تعالى وآخريته ، وأنه كل ما فرضه الذهن من الأزمان السابقة ، مهما تسلسل الفرض والتقدير ، فهو تعالى قبل ذلك إلى غير نهاية ، وأنه مهما فرضه الذهن والعقل ، من الأزمان المتأخرة ، وتسلسل الفرض والتقدير ، وساعد على ذلك من ساعد ، بقلبه ولسانه ، فاللّه تعالى بعد ذلك إلى غير غاية ولا نهاية .

واللّه في جميع الأوقات يحكم ، ويتكلم ، ويقول ، ويفعل كيف أراد ، وإذا أراد لا مانع له من شيء من أقواله وأفعاله ، فإذا تصور العقل ذلك ، عرف أن المثل الذي ضربه اللّه لكلامه ، ليدرك العباد شيئا منه ، وإلا ، فالأمر أعظم وأجل .

ثم ذكر جلالة عزته وكمال حكمته فقال : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : له العزة جميعا ، الذي ما في العالم العلوي والسفلي من القوة إلا منه ، أعطاها للخلق ، فلا حول ولا قوة إلا به ، وبعزته قهر الخلق كلهم ، وتصرف فيهم ، ودبرهم ، وبحكمته خلق الخلق ، وابتدأه بالحكمة ، وجعل غايته والمقصود منه الحكمة ، وكذلك الأمر والنهي وجد بالحكمة ، وكانت غايته المقصودة الحكمة ، فهو الحكيم في خلقه وأمره .

ثم ذكر عظمة قدرته وكمالها وأنه لا يمكن أن يتصورها العقل فقال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ }


[673]:- في ب: مدّت.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

لما احتج على المشركين بما احتج بين أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد ، وأنها لا نهاية لها . وقال القفال : لما ذكر أنه سخر لهم ما في السموات وما في الأرض وأنه أسبغ النعم نبه على أن الأشجار لو كانت أقلاما ، والبحار مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب . قال القشيري : فرد معنى تلك الكلمات إلى المقدورات ، وحمل الآية على الكلام القديم أولى . والمخلوق لا بد له من نهاية ، فإذا نفيت النهاية عن مقدوراته فهو نفي النهاية عما يقدر في المستقبل على إيجاده ، فأما ما حصره الوجود وعده فلا بد من تناهيه ، والقديم لا نهاية له على التحقيق . وقد مضى الكلام في معنى " كلمات الله " في آخر " الكهف " {[12616]} . وقال أبو علي : المراد بالكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود . وهذا نحو مما قاله القفال ، وإنما الغرض الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وهي في نفسها غير متناهية ، وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة ، لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور . ومعنى نزول الآية : يدل على أن المراد بالكلمات الكلام القديم . قال ابن عباس : إن سبب هذه الآية أن اليهود قالت : يا محمد ، كيف عنينا بهذا القول " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " {[12617]} [ الإسراء : 85 ] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه ، وعندك أنها تبيان كل شيء ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التوراة قليل من كثير ) ونزلت هذه الآية ، والآية مدنية . قال أبو جعفر النحاس : فقد تبين أن الكلمات ها هنا يراد بها العلم وحقائق الأشياء ؛ لأنه عز وجل علم قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السموات والأرض من كل شيء ، وعلم ما فيه من مثاقيل الذّر ، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو ، وما في الشجرة من ورقة ، وما فيها من ضروب الخلق ، وما يتصرف فيه من ضروب الطعم واللون ، فلو سمى كل دابة وحدها ، وسمى أجزاءها على ما علم من قليلها وكثيرها وما تحولت عليه من الأحوال ، وما زاد فيها في كل زمان ، وبين كل شجرة وحدها وما تفرعت إليه ، وقدر ما ييبس من ذلك في كل زمان ، ثم كتب البيان على كل واحد منها ما أحاط الله جل ثناؤه به منها ، ثم كان البحر مدادا لذلك البيان الذي بين الله تبارك وتعالى عن تلك الأشياء يمده من بعده سبعة أبحر لكان البيان عن تلك الأشياء أكثر . قلت : هذا معنى قول القفال ، وهو قول حسن إن شاء الله تعالى . وقال قوم : إن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينحسر ، فنزلت . وقال السدي : قالت قريش ما أكثر كلام محمد ! فنزلت .

قوله تعالى : " والبحر يمده " قراءة الجمهور بالرفع على الابتداء ، وخبره في الجملة التي بعدها ، والجملة في موضع الحال ، كأنه قال : والبحر هذه حاله ، كذا قدرها سيبويه . وقال بعض النحويين : هو عطف على " أن " لأنها في موضع رفع بالابتداء . وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق : " والبحر " بالنصب على العطف على " ما " وهي اسم " أن " . وقيل : أي ولو أن البحر يمده أي يزيد فيه . وقرأ ابن هرمز والحسن : " يمده " ؛ من أمد . قالت فرقة : هما بمعنى واحد . وقالت فرقة : مد الشيء بعضه بعضا ، كما تقول : مد النيل الخليج ، أي زاد فيه . وأمد الشيء ما ليس منه . وقد مضى هذا في " البقرة . وآل عمران " {[12618]} . وقرأ جعفر بن محمد : " والبحر مداده " . " ما نفدت كلمات الله " تقدم{[12619]} . " إن الله عزيز حكيم " تقدم أيضا{[12620]} . وقال أبو عبيدة : البحر ها هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام ، وأما الماء الملح فلا ينبت الأقلام .


[12616]:راجع ج 11 ص 68.
[12617]:راجع ج 10 ص 324.
[12618]:راجع ج 1 ص 209 و ج 4 ص 194 فما بعد.
[12619]:راجع ج 11 ص 68.
[12620]:راجع ج 2 ص 131.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له ، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبت أنه على غير ذلك ، بل{[54162]} لا حد لغناه ، ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده ولا تناه ، فقال : { ولو } أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو { أنّ ما في الأرض } أي كلها ، ودل على الاستغراق وتقصى{[54163]} كل فرد فرد{[54164]} من الجنس بقوله : { من شجرة } حيث وحدها { أقلام } أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع{[54165]} شجرات ، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام { والبحر } أي والحال أن البحر ، وعلى قراءة البصريين{[54166]} بالنصب{[54167]} التقدير : ولو أن البحر { يمده } أي يكون مدداً{[54168]} وزيادة فيه { من بعده } أي من ورائه { سبعة أبحر } فكتب{[54169]} بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة كلمات الله { ما نفدت } وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للمقام فقال{[54170]} مظهراً للإشارة{[54171]} مع التبرك{[54172]} إلى عدم التقيد بشيء وإن جل{[54173]} : { كلمات الله } وفنيت الأقلام والمداد ، وأشار بجمع القلة مع الإضافة إلى اسم الذات إلى زيادة العظمة بالعجز عن ذلك القليل فيفهم العجز عن الكلم من باب الأولى ، ويتبع الكلمات الإبداع ، فلا تكون كلمة إلا لإحداث شأن من الشؤون

إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون }[ يس : 82 ] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة ، فهي لا تفي بما ليس بمحصور ، فيا لها من عظمة لا تتناهى ! ومن كبرياء لا تجارى ، ولا تضاهى ، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة ، وعدم البعث إنكار للحكمة : { إن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {[54174]}من غير قيد أصلاً{[54175]} { عزيز } أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء { حكيم * } يحكم{[54176]} ما أراده ، فلا يقدر أحد على نقضه ، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه ، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما

أورثه ، وقد علم أن الآية من الاحتباك : ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها{[54177]} ، وذكر السبعة في{[54178]} مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار ، وهو من عظيم هذا الفن ، وعلم أيضاً من السياق أن المراد بالسبعة المبالغة في الكثرة لا حقيقتها ، وأن المراد بجمع القلة في " أبحر " الكثرة ، لقرينة المبالغة ، وبجمع القلة في { كلمات } حقيقتها لينتظم المعنى ، وكل ذلك سائغ شائع{[54179]} في لغة العرب .


[54162]:زيد من ظ وم ومد.
[54163]:من مد، وفي الأصل وظ وم: يقضي.
[54164]:سقط من ظ.
[54165]:في ظ: السبع.
[54166]:راجع نثر المرجان 5/338.
[54167]:سقط من م.
[54168]:في ظ وم ومد: مداد.
[54169]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: يكتب.
[54170]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فقام.
[54171]:من ظ ومد، وفي الأصل: الإشارة.
[54172]:في ظ ومد: التبري.
[54173]:العبارة من "مظهرا" إلى هنا ساقطة من م.
[54174]:سقط ما بين الرقمين من م.
[54175]:سقط ما بين الرقمين من م.
[54176]:سقط من ظ ومد.
[54177]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: مرادها.
[54178]:زيد من ظ وم ومد.
[54179]:سقط من ظ.