( وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ) . .
فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف ، والعودة إلى بيوتهم ، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا ، لا موضع لها ولا محل ، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم . . وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها ، ثغرة الخوف على النساء والذراري . والخطر محدق والهول جامح ، والظنون لا تثبت ولا تستقر !
( ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة ) . .
يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو . متروكة بلا حماية .
وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة :
ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار :
وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقولون : ( إن بيوتنا عورة ) ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا . ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجعإلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا . فأذن لهم [ صلى الله عليه وسلم ] فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله لا تأذن لهم . إنا والله ما اصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا . . فردهم . .
فهكذا كان أولئك الذين يجبههم القرآن بأنهم : ( إن يريدون إلا فرارا ) . .
{ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ } من المنافقين ، بعد ما جزعوا وقلَّ صبرهم ، وصاروا أيضًا من المخذولين ، فلا صبروا بأنفسهم ، ولا تركوا الناس من شرهم ، فقالت هذه الطائفة : { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ } يريدون { يا أهل المدينة } فنادوهم باسم الوطن المنبئ [ عن التسمية ]{[693]} فيه إشارة إلى أن الدين والأخوة الإيمانية ، ليس له في قلوبهم قدر ، وأن الذي حملهم على ذلك ، مجرد الخور الطبيعي .
{ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ } أي : في موضعكم الذي خرجتم إليه خارج المدينة ، وكانوا عسكروا دون الخندق ، وخارج المدينة ، { فَارْجِعُوا } إلى المدينة ، فهذه الطائفة تخذل عن الجهاد ، وتبين أنهم لا قوة لهم بقتال عدوهم ، ويأمرونهم بترك القتال ، فهذه الطائفة ، شر الطوائف وأضرها ، وطائفة أخرى دونهم ، أصابهم الجبن والجزع ، وأحبوا أن ينخزلوا عن الصفوف ، فجعلوا يعتذرون بالأعذار الباطلة ، وهم الذين قال اللّه فيهم : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي : عليها الخطر ، ونخاف عليها أن يهجم عليها الأعداء ، ونحن غُيَّبٌ عنها ، فَأْذَنْ لنا نرجع إليها ، فنحرسها ، وهم كذبة في ذلك .
{ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ } أي : ما قصدهم { إِلَّا فِرَارًا } ولكن جعلوا هذا الكلام ، وسيلة وعذرًا . [ لهم ]{[694]} فهؤلاء قل إيمانهم ، وليس له ثبوت عند اشتداد المحن .
قوله تعالى : " وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا " الطائفة تقع على الواحد فما فوقه . وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس ، الذي يقول فيه الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد *** تلقاها عَرَابَةُ باليمين
و " يثرب " هي المدينة ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة . وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ، والمدينة ناحية منها . السهيلّي : وسميت يثرب ؛ لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم . وفي بعض هذه الأسماء اختلاف{[12770]} . وبنو عميل{[12771]} هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها . وبها سميت الجحفة . " لا مقام لكم " بفتح الميم قراءة العامة . وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة : بضم الميم ، يكون مصدرا من أقام يقيم ، أي لا إقامة ، أو موضعا يقيمون فيه . ومن فتح فهو اسم مكان ، أي لا موضع لكم تقيمون فيه . " فارجعوا " أي إلى منازلكم . أمروهم بالهروب من عسكر النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : قالت اليهود لعبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه ! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون .
قوله تعالى : " ويستأذن فريق منهم النبي " في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة ، وهم بنو حارثة ابن الحارث ، في قول ابن عباس . وقال يزيد بن رومان : قال ذلك أوس بن قيظي عن ملأ من قومه . " يقولون إن بيوتنا عورة " أي سائبة ضائعة ليست بحصينة ، وهي مما يلي العدو . وقيل : ممكنة للسراق لخلوها من الرجال . يقال : دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها . يقال : عور المكان عورا فهو عور . وبيوت عورة . وأعور فهو معور . وقيل : عورة ذات عورة . وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة . قاله الهروي . وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي : " عورة " بكسر الواو ، يعني قصيرة الجدران فيها خلل . تقول العرب : دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة . وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن . قال الشاعر :
متى تلقَهم لم تلقَ في البيت مُعْوِرَا *** ولا الضيفَ مفجوعاً ولا الجارَ مُرْمِلاَ
الجوهري : والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب . النحاس : يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة ، وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل . المهدوي : ومن كسر الواو في " عورة " فهو شاذ ، ومثله قولهم : رجل عور{[12772]} ، أي لا شيء له ، وكان القياس أن يعل فيقال : عار ، كيوم راح{[12773]} ، ورجل مال ، أصلهما روح ومول . ثم قال تعالى " وما هي بعورة " تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه . " إن يريدون إلا فرارا " أي ما يريدون إلا الهرب . قيل : من القتل . وقيل : من الدين . وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار : بني حارثة وبني سلمة ، وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق ، وفيهم أنزل الله تعالى : " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " {[12774]} [ آل عمران : 122 ] الآية . فلما نزلت هذه الآية قالوا : والله ما ساءنا ما كنا هممنا به ؛ إذ الله ولينا . وقال السدي : الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما - أبو عرابة بن أوس ، والآخر أوس بن قيظي . قال الضحاك : ورجع ثمانون رجلا بغير إذنه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.