في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجۡعَلَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَغۡلَٰلَ فِيٓ أَعۡنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (33)

28

ولو كانوا في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة . ولكنهم في الآخرة حيث تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة ؛ وتتفتح العيون المغلقة وتظهر الحقائق المستورة . ومن ثم لا يسكت المستضعفون ولا يخنعون ، بل يجبهون المستكبرين بمكرهم الذي لم يكن يفتر نهاراً ولا ليلاً للصد عن الهدى ؛ وللتمكين للباطل ، ولتلبيس الحق ، وللأمر بالمنكر ، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء :

( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار ، إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً ) . .

ثم يدرك هؤلاء وهؤلاء أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء ، ولا ينجي المستكبرين ولا المستضعفين . فلكل جريمته وإثمه . المستكبرون عليهم وزرهم ، وعليهم تبعة إضلال الآخرين وإغوائهم . والمستضعفون عليهم وزرهم ، فهم مسؤولون عن اتباعهم للطغاة ، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين . لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية ، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولاً وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين . فاستحقوا العذاب جميعاً ؛ وأصابهم الكمد والحسرة وهم يرون العذاب حاضراً لهم مهيأ :

( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) . .

وهي حالة الكمد الذي يدفن الكلمات في الصدور ، فلا تفوه بها الألسنة ، ولا تتحرك بها الشفاه .

ثم أخذهم العذاب المهين الغليظ الشديد :

( وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا ) . .

ثم يلتفت السياق يحدث عنهم وهم مسحوبون في الأغلال ، مهملاً خطابهم إلى خطاب المتفرجين !

( هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .

ويسدل الستار على المستكبرين والمستضعفين من الظالمين . وكلاهما ظالم . هذا ظالم بتجبره وطغيانه وبغيه وتضليله . وهذا ظالم بتنازله عن كرامة الإنسان ، وإدراك الإنسان ، وحرية الإنسان ، وخنوعه وخضوعه للبغي والطغيان . . وكلهم في العذاب سواء . لا يجزون إلا ما كانوا يعملون . .

يسدل الستار وقد شهد الظالمون أنفسهم في ذلك المشهد الحي الشاخص . شهدوا أنفسهم هناك وهم بعد أحياء في الأرض . وشهدهم غيرهم كأنما يرونهم . وفي الوقت متسع لتلافي ذلك الموقف لمن يشاء !

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجۡعَلَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَغۡلَٰلَ فِيٓ أَعۡنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (33)

{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } أي : بل الذي دهانا منكم ، ووصل إلينا من إضلالكم ، ما دبرتموه من المكر ، في الليل والنهار ، إذ تُحَسِّنون لنا الكفر ، وتدعوننا إليه ، وتقولون : إنه الحق ، وتقدحون في الحق وتهجنونه ، وتزعمون أنه الباطل ، فما زال مكركم بنا ، وكيدكم إيانا ، حتى أغويتمونا وفتنتمونا .

فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إلا تبري بعضهم من بعض ، والندامة العظيمة ، ولهذا قال : { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } أي : زال عنهم ذلك الاحتجاج الذي احتج به بعضهم على بعض لينجو من العذاب ، وعلم أنه ظالم مستحق له ، فندم كل منهم غاية الندم ، وتمنى أن لو كان على الحق ، [ وأنه ] ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب ، سرا في أنفسهم ، لخوفهم من الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم . وفي بعض مواقف القيامة ، وعند دخولهم النار ، يظهرون ذلك الندم جهرا .

{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } الآيات .

{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ }

{ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } يغلون كما يغل المسجون الذي سيهان في سجنه كما قال تعالى { إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } الآيات .

{ هَلْ يُجْزَوْنَ } في هذا العذاب والنكال ، وتلك الأغلال الثقال { إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من الكفر والفسوق والعصيان .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجۡعَلَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَغۡلَٰلَ فِيٓ أَعۡنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (33)

" وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار " المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة ، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار . قال الأخفش : هو على تقدير : هذا مكر الليل والنهار . قال النحاس : والمعنى - والله أعلم - بل مكركم في الليل والنهار ، أي مساواتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا . وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار . قتادة : بل مكركم بالليل والنهار صدنا ؛ فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما ، وهو كقوله تعالى : " إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر " {[13047]} [ نوح : 4 ] فأضاف الأجل إلى نفسه ، ثم قال : " فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ، ساعة " {[13048]} [ الأعراف : 34 ] إذ كان الأجل لهم . وهذا من قبيل قولك : ليله قائم ونهاره صائم . قال المبرد : أي بل مكركم الليل والنهار ، كما تقول العرب : نهاره صائم وليله قائم . وأنشد لجرير :

لقد لُمْتِنَا يا أم غيلان في السُّرَى *** ونمتِ وما ليلُ المَطِيِّ بنائم

وأنشد سيبويه :

فنام ليلي وتجلَّى همي

أي نمت فيه . ونظيره : " والنهار مبصرا " {[13049]} [ يونس : 67 ] . وقرأ قتادة : " بل مكرٌ الليلَ والنهارَ " بتنوين " مكر " ونصب " الليل والنهار " ، والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار ، فحذف . وقرأ سعيد بن جبير " بل مكَرُّ " بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور ، وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف . ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه " أنحن صددناكم " كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر الليل والنهار . وروي عن سعيد بن جبير " بل مكر الليل والنهار " قال : مر الليل والنهار عليهم فغفلوا . وقيل : طول السلامة فيهما كقوله " فطال عليهم الأمد " {[13050]} [ الحديد : 16 ] . وقرأ راشد " بل مكَرَّ الليل والنهار " بالنصب ، كما تقول : رأيته مقدم الحاج ، وإنما يجوز هذا فيما يعرف ، لو قلت : رأيته مقدم زيد ، لم يجز . ذكره النحاس .

قوله تعالى : " إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا " أي أشباها وأمثالا ونظراء . قال محمد بن يزيد : فلان ند فلان ، أي مثله . ويقال نديد ، وأنشد :

أينما تجعلون إليّ ندّا *** وما أنتم لذي حسب نديدُ

وقد مضى هذا في " البقرة " {[13051]} . " وأسروا الندامة " أي أظهروها ، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء . قال امرؤ القيس :

تجاوزت أحراسا وأهوالَ مَعْشَرٍ *** عليّ حراصًا لو يُسِرُّون مقتلي{[13052]}

وروي " يشرون " . وقيل : " وأسروا الندامة " أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم . قيل : الندامة لا تظهر ، وإنما تكون في القلب ، وإنما يظهر ما يتولد عنها ، حسبما تقدم بيانه في سورة " يونس{[13053]} ، وآل عمران " . وقيل : إظهارهم الندامة قولهم : " فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين " {[13054]} [ الشعراء : 102 ] . وقيل : أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها ؛ كما قال : " وأسروا النجوى " {[13055]} [ الأنبياء : 3 ] .

قوله تعالى : " وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا " الأغلال جمع غل ، يقال : في رقبته غل من حديد . ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق : غل قمل ، وأصله أن الغل كان يكون من قد وعليه شعر فيقمل وغللت يده إلى عنقه ؛ وقد غل فهو مغلول ، يقال : ما له أُلَّ وغُلَّ{[13056]} . والغل أيضا والغلة : حرارة العطش ، وكذلك الغليل ، يقال منه : غل الرجل يغل غللا فهو مغلول ، على ما لم يسم فاعله ، عن الجوهري . أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين والمتبوعين . قيل من غير هؤلاء الفريقين . وقيل يرجع " الذين كفروا " إليهم . وقيل : تم الكلام عند قوله : " لما رأوا العذاب " ثم ابتدأ فقال : " وجعلنا الأغلال " بعد ذلك في أعناق سائر الكفار . " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " في الدنيا .


[13047]:راجع ج 18 ص 299.
[13048]:راجع ج 7 ص 201 فما بعد.
[13049]:راجع ج 8 ص 360.
[13050]:راجع ج 17 ص 248 فما بعد.
[13051]:راجع ج 1 ص 230.
[13052]:هذه رواية البيت كما في نسخ الأصل والديوان وروايته كما في المعلقات: تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا *** علي حراصا لو يشرون مقتلي "يشرون" بالشين المعجمة: يظهرون.
[13053]:راجع ج 8 ص 352.
[13054]:راجع ج 13 ص 117.
[13055]:راجع ج 11 ص 215.
[13056]:أل: دفع في قفاه. وغل: جن، فوضع في عنقه الغل.