( ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل ، هل يستويان مثلاً ? الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) . .
يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضاً فيه ، وهو بينهم موزع ؛ ولكل منهم فيه توجيه ، ولكل منهم عليه تكليف ؛ وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق ؛ ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ! وعبد يملكه سيد واحد ، وهو يعلم ما يطلبه منه ، ويكلفه به ، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح . .
إنهما لا يستويان . فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين . وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه ، ووضوح الطريق . والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحداً منهم فضلاً على أن يرضي الجميع !
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال . فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى ، لأن بصره أبداً معلق بنجم واحد على الأفق فلا يلتوي به الطريق . ولأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق ، ومصدراً واحداً للنفع والضر ، ومصدراً واحداً للمنح والمنع ، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ، يستمد منه وحده ، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته . ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره . ويخدم سيداً واحداً يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه . . وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد ، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء . .
ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي ، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة
ثم ضرب مثلا للشرك والتوحيد فقال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا } أي : عبدا { فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } فهم كثيرون ، وليسوا متفقين على أمر من الأمور وحالة من الحالات حتى تمكن راحته ، بل هم متشاكسون متنازعون فيه ، كل له مطلب يريد تنفيذه ويريد الآخر غيره ، فما تظن حال هذا الرجل مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين ؟
{ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أي : خالصا له ، قد عرف مقصود سيده ، وحصلت له الراحة التامة . { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } أي : هذان الرجلان { مَثَلًا } ؟ لا يستويان .
كذلك المشرك ، فيه شركاء متشاكسون ، يدعو هذا ، ثم يدعو هذا ، فتراه لا يستقر له قرار ، ولا يطمئن قلبه في موضع ، والموحد مخلص لربه ، قد خلصه اللّه من الشركة لغيره ، فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة ، ف { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ } على تبيين الحق من الباطل ، وإرشاد الجهال . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
ثم ضرب مثلا للموحد والمشرك فقال { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون } متنازعون سيئة أخلاقهم وكل واحد يستخدمه بقدر نصيبه وهذا مثل المشرك الذي يعبد آلهة شتى { ورجلا سلما } خالصا { لرجل } وهو الذي يعبد الله وحده { هل يستويان مثلا } أي هل يستوي مثل الموحد ومثل المشرك { الحمد لله } وحده دون غيره من المعبودين { بل أكثرهم لا يعلمون } مفسر في سورة النحل
قوله تعالى : " ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون " قال الكسائي : نصب " رجلا " لأنه ترجمة للمثل وتفسير له ، وإن شئت نصبته بنزع الخافض ، مجازه : ضرب الله مثلا برجل " فيه شركاء متشاكسون " قال الفراء : أي مختلفون . وقال المبرد : أي متعاسرون من شَكُسَ يَشْكُسُ شُكْسًا بوزن قفل فهو شُكْس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر ، يقال : رجل شَكِسٌ وشَرِسٌ وضَرِسٌ وضَبِسٌ . ويقال : رجل ضَبِسٌ وضبيس أي شَرِسٌ عَسِرٌ شَكِسٌ ، قاله الجوهري . الزمخشري : والتشاكس والتشاخس الاختلاف . يقال : تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه . ويقال : شاكسني فلان أي ماكسني وشاحَّني في حقي . قال الجوهري : رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق . قال الراجز :
شَكْسٌ عَبُوسٌ عَنْبَسٌ عَذَوَّرُ
وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق . وقد شكس بالكسر شكاسة . وحكى الفراء : رجل شكس . وهو القياس ، وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة . " ورجلا سلما لرجل " أي خالصا لسيد واحد ، وهو مثل من يعبد الله وحده . " هل يستويان مثلا " هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ، ونياتهم متباينة ، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه ، فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم ، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته ، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد ، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له ، وإن أخطأ صفح عن خطئه ، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم . وقرأ أهل الكوفة وأهل المدينة : " ورجلا سالما " وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب : " ورجلا سالما " واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه . قال : لأن السالم الخالص ضد المشترك ، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا . النحاس : وهذا الاحتجاج لا يلزم ؛ لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما ، فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع آخر ، كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك . ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم غيره ؛ لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به . والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة . واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة " سلما " قال وهذا الذي لا تنازع فيه . وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر " سلما " بكسر السين وسكون اللام . وسلما وسلما مصدران . والتقدير : ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و " مثلا " صفة على التمييز ، والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما . وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس . " الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون " أي لا يعلمون الحق فيتبعونه .
قوله : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } { مثلاً } ، مفعول لضرب . و { رجلاً } بدل منه ، والمراد به عبد { فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي متنازعون متخاصمون في ذلك العبد المشترك بينهم { وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ } أي سالما له ، خالصا من الاشتراك فيه ، فلا يملكه أحد غير رجل واحد .
قوله : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } { مثلاً } بمعنى صفة ، وهو تمييز . أي هل يستوي هذان الرجلان في حالهما وصفتهما ؟ ! وهو استفهام إنكار واستبعاد لاستوائهما . والمراد من المثل : أنه لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله ، والمؤمن المخلص الذي يعبد الله وحده لا شريك له .
فالمشرك يتيه في ضلاله حائرا بين الشركاء والأنداد ، وهي كثيرة ومختلفة وصماء يتخبط الجاهلون في تعظيمها والتخشُّع أمامها . لكن المؤمن الذي أخلص دينه وعبادته لله وحده دون غيره من الشركاء ، لا جرم أنه مستقر في سكينته وراحته وطمأنينته .
قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ذلك تنبيه من الله للموحدين على ما امتنَّ به عليهم من توفيقهم لتوحيده وطاعته . لا جرم أن هذه نعمة جليلة تقتضي دوام الحمد لله تعالى بالخضوع له وعبادته وتمام طاعته .
قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أضرب عن بيان عدم الاستواء بين الرجلين المملوكين إلى بيان أن { أكثر الناس لا يعلمون } أي لا يعلمون الحق ، وهم ناكبون عن صراط الله السويِّ وناكلون عن منهجه الحكيم .