ويمضون في العجب والتعجيب ، والاستنكار والتشهير : ( أفترى على الله كذباً أم به جنة ? ) . . فما يقول مثل هذا الكلام - بزعمهم - إلا كاذب يفتري على الله ما لم يقله ، أو مسته الجن فهو يهذي أو ينطق بالعجيب الغريب !
ولم هذا كله ? لأنه يقول لهم : إنكم ستخلقون خلقاً جديداً ! وفيم العجب وهم قد خلقوا ابتداء ? إنهم لا ينظرون هذه العجيبة الواقعة . عجيبة خلقهم الأول . ولو قد نظروها وتدبروها ما عجبوا أدنى عجب للخلق الجديد . ولكنهم ضالون لا يهتدون . ومن ثم يعقب على تشهيرهم وتعجيبهم تعقيباً شديداً مرهوباً :
( بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) . .
وقد يكون المقصود بالعذاب الذي هم فيه عذاب الآخرة ، فهو لتحققه كأنهم واقعون فيه ، وقوعهم في الضلال البعيد الذي لا يرجى معه اهتداء . . وقد يكون هذا تعبيراً عن معنى آخر . معنى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة يعيشون في عذاب كما يعيشون في ضلال . وهي حقيقة عميقة . فالذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي . لا أمل له ولا رجاء في نصفة ولا عدل ولا جزاء ولا عوض عما يلقاه في الحياة . وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة ، وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء . وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر ، الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة ( وإن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله ) . والذي يحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال . يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه !
إن الإعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبهما الله لمن يستحقهما من عباده بإخلاص القلب ، وتحري الحق ، والرغبة في الهدى . وأرجح أن هذا هو الذي تشير إليه الآية ، وهي تجمع على الذين لا يؤمنون بالآخرة بين العذاب والضلال البعيد .
{ أفترى على الله كذبا أم به جنة . . . }
افترى : الافتراء هو اختلاق الكذب أي أكذب وأختلق ؟
أم به جنة : جنون يوهمه ذلك ويجعله يتخيل البعث .
والضلال البعيد : الضلال البعيد عن الصواب في الدنيا أي ليس بمحمد افتراء أو جنون ولكن الكفار يعد عن الحق في الدنيا وعذاب في الآخرة .
إن حال محمد لا يخلو من أمرين : إما أن يكون قد اختلق هذا القول على الله كذبا وزورا دون أن ينزل عليه وحي ، أو أن يكون محمد به مرض الجنون الذي جعله لا يعقل ما يقول ويتوهم البعث ويتخيله .
{ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } .
أي ليس محمد بكاذب ولا بمجنون لكن كفار مكة قد ضلوا عن الحق ضلالا بعيدا ، واستحقوا العذاب الشديد في الآخرة .
ويجوز أن يكون المعنى : إن الكفار في بعدهم عن الله في قلق نفسي واضطراب وعدم استقرار فهم في عذاب دنيوي وعذاب أخروي وهم في ضلال شديد لعدم اهتدائهم بهدى الله ولعدم اتباعهم لرسول الله .
ولما نفروا عنه بهذا الإخبار المحير{[56410]} في الحامل له عليه ، خيلوا بتقسيم القول فيه في استفهام مردد{[56411]} بين الاستعجام تعجيباً والإنكار ، فقالوا جواباً لمن سأل عن سبب إخباره بإسقاط همزة الوصل ، لعدم الإلباس هنا بخلاف ما يصحب لام التعريف فإنها لفتحها تلبس بالخبر : { افترى } أي تعمد { على الله } أي{[56412]} الذي لا أعظم منه { كذباً } بالإخبار بخلاف الواقع وهو عاقل يصح منه القصد{[56413]} . ولما كان يلزم من التعمد العقل ، قالوا : { أم به جنة } أي جنون ، فهو يقول الكذب ، وهو ما لا حقيقة له من غير تعمد ، لأنه ليس من أهل القصد ، فالآية من الاحتباك : ذكر الافتراء أولاً يدل على ضده ثانياً ، وذكر الجنون ثانياً يدل على ذكر ضده أولاً{[56414]} .
ولما كان الجواب : ليس به{[56415]} شيء من ذلك ، عطف عليه مخبراً عن بعض الذين كفروا بما يوجب ردع البعض الآخر قوله : { بل الذين لا يؤمنون } أي لا{[56416]} يجددون الإيمان لأنهم طبعوا على الكفر { بالآخرة } أي الفطرة الآخرة التي أدل شيء عليها الفطرة الأولى .
ولما كان هذا القول مسبباً عن ضلالهم ، وكان ضلالهم سبباً لعذابهم ، قدم العذاب لأنه المحط وليرتدع من أراد الله إيمانه فقال : { في العذاب } أي في الدنيا بمحاولة إبطال ما أراد الله إتمامه ، وفي الآخرة لما فيه من المعصية ، وأتبعه سببه فقال : { والضلال } أي عما يلزم من وجوب وحدانيته وشمول قدرته بسبب أن له ما في السماوات وما في الأرض .
ولما كان قولهم بعيداً من الحق لوصفهم أهدى الناس بالضلال ، وكان الضلال يبعد {[56417]}ببعد صاحبه{[56418]} عن الجادة وتوغله في المهامه الوعرة الشاسعة ، قال واصفاً له بوصف الضال{[56419]} : { البعيد * } فبين الوصف أنه لا يمكن الانفكاك عنه{[56420]} ، وعلم أن من الذين كفروا قسماً{[56421]} لم يطبعوا على الكفر ، فضلوا ضلالاً قريباً يمكن انفكاكهم عنه{[56422]} ، وهم الذين آمنوا منهم بعد ، وهو من بديع القول{[56423]} حيث عبر بهذا الظاهر الذي أفهم هذا التقسيم موضع الإضمار الذي كان حقه : بل هم في كذا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.