في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

10

( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ) . .

والمحاريب من أماكن العبادة ، والتماثيل الصور من نحاس وخشب وغيره . والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء . وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفاناً كبيرة للطعام تشبه الجوابي ، وتصنع له قدوراً ضخمة للطبخ راسية لضخامتها . . وهذه كلها نماذج مما سخر الله الجن لسليمان لتقوم له به حيث شاء بإذن الله . وكلها أمور خارقة لا سبيل إلى تصورها أو تعليلها إلا بأنها خارقة من صنع الله . وهذا هو تفسيرها الواضح الوحيد .

ويختم هذا بتوجيه الخطاب إلى آل داود :

( اعملوا آل داود شكراً ) . .

سخرنا لكم هذا وذلك في شخص داود وشخص سليمان - عليهما السلام - فاعملوا يا آل داود شكراً لله . لا للتباهي والتعالي بما سخره الله . والعمل الصالح شكر لله كبير .

( وقليل من عبادي الشكور ) . .

تعقيب تقريري وتوجيهي من تعقيبات القرآن على القصص . يكشف من جانب عن عظمة فضل الله ونعمته حتى ليقل القادرون على شكرها . ويكشف من جانب آخر عن تقصير البشر في شكر نعمة الله وفضله . وهم مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء . فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس ? !

وماذا يملك المخلوق الإنساني المحدود الطاقة من الشكر على آلاء الله وهي غير محدودة ? . . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها . . وهذه النعم تغمر الإنسان من فوقه ومن تحت قدميه ، وعن أيمانه وعن شمائله ، وتكمن فيه هو ذاته وتفيض منه . وهو ذاته إحدى هذه الآلاء الضخام !

كنا نجلس جماعة نتحدث وتتجاوب أفكارنا وتتجاذب ، وتنطلق ألسنتنا بكل ما يخطر لنا على بال . ذلك حينما جاء قطنا الصغير " سوسو " يدور هنا وهناك من حولنا ، يبحث عن شيء ؛ وكأنما يريد أن يطلب إلينا شيئاً ، ولكنه لا يملك أن يقول ؛ ولا نملك نحن أن ندرك . حتى ألهمنا الله أنه يطلب الماء وكان هذا . وكان في شدة العطش . وهو لا يملك أن يقول ولا أن يشير . . وأدركنا في هذه اللحظة شيئاً من نعمة الله علينا بالنطق واللسان ، والإدراك والتدبير . وفاضت نفوسنا بالشكر لحظة . . وأين الشكر من ذلك الفيض الجزيل .

وكنا فترة طويلة محرومين من رؤية الشمس . وكان شعاع منها لا يتجاوز حجمه حجم القرش ينفذ إلينا أحياناً . وإن أحدنا ليقف أمام هذا الشعاع يمرره على وجهه ويديه وصدره وظهره وبطنه وقدميه ما استطاع . ثم يخلي مكانه لأخيه ينال من هذه النعمة ما نال ! ولست أنسى أول يوم بعد ذلك وجدنا فيه الشمس . لست أنسى الفرحة الغامرة والنشوة الظاهرة على وجه أحدنا ، وفي جوارحه كلها ، وهو يقول في نغمة عميقة مديدة . . الله ! هذه هي الشمس . شمس ربنا وما تزال تطلع . . الحمد لله !

فكم نبعثر في كل يوم من هذه الأشعة المحيية ، ونحن نستحم في الضوء والدفء . ونسبح ونغرق في نعمة الله ? وكم نشكر هذا الفيض الغامر المتاح المباح من غير ثمن ولا كد ولا معاناة ? !

وحين نمضي نستعرض آلاء الله على هذا النحو فإننا ننفق العمر كله ، ونبذل الجهد كله ، ولا نبلغ من هذا شيئاً . فنكتفي إذن بهذه الإشارة الموحية ، على طريقة القرآن في الإشارة والإيماء ، ليتدبرها كل قلب ، ويمضي على إثرها ، قدر ما يوفقه الله لنعمة الشكر ، وهي إحدى آلاء الله ، يوفق إليها من يستحقها بالتوجه والتجرد والإخلاص . .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

10

{ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا ءال داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } .

المفردات :

من محاريب : جمع محراب قيل المساجد وقيل المقصورة تكون إلى جوار المسجد للتعبد فيها .

تماثيل : جمع تمثال وهي الصور وقيل إن التصوير كان مباحا في شرع سليمان ثم نسخ ذلك في شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

وجفان : جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام من أعظم القصاع وأكبرها ويليها في الصغر القصعة ويليها المئكلة ويليها الصحفة .

كالجواب : كالحياض الكبار التي يجبى فيها الماء للإبل والجواب جمع جابية .

قدور : جمع قدور وهي ما يطبخ فيه من فخار ونحوه على شكل مخصوص .

راسيات : ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها .

التفسير :

أي يعمل الجن لسليمان ما يريد عمله من بناء المحاريب وهي المساجد أو القصور الشاهقة والأبنية العالية التي يحارب من خلالها .

وقيل المحراب هو المقصورة بجوار القبلة ، أو التجويف تجاه القبلة .

{ وتماثيل } : وهي الصور المجسمة المصنوعة من النحاس أو الزجاج للأنبياء والصالحين تشجيعا للهمم في العبادة ، والاقتداء بهم وكان ذلك جائزا في عهد سليمان ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خشية التشبه بعبادة الأصنام .

وأباح الفقهاء عمل تمثال لكل ما ليس فيه روح ، كالأنهار والأشجار وكذلك لعب الأطفال من التماثيل لحديث رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلى فيلعبن معي . v

وأجاز جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب اتخاذ الصور إذا كانت مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالوسائد والمفارش أما التصوير الشمس والفوتوغرافي فهو جائز لأنه ليس تصويرا بالمعنى الذي جاءت به الأحاديث بل حبس للصورة أو الظل فيكون مثل الصورة في المرأة أو الماء .

وأما الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود وابن عباس " أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " vi فقد قال بعض العلماء المراد به من يصنعون تمثالا يضاهئون به خلق الله بدليل حديث " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله " ومن طريق آخر " يقال لهم أحيوا ما خلقتم " .

وفي فتح الباري : أن فريقا من العلماء قال بتحريم عمل التماثيل وفريقا قال : إن ذلك مكروه فقط فقد حرم في صدر الإسلام حيث فيه تشبه بعبادة الأصنام وكان القوم حديثي عهد بعبادة الأصنام فنهوا عن عمل التماثيل أما الآن فعملها مكروه فقط .

وقال فريق ثالث : ليس ذلك مكروها بل هو جائز خصوصا ما لا تتم به الحياة كالتمثال النصفي كل ما هو غير كامل .

{ وجفان كالجواب . . . }

الصحاف والقصاع الكبيرة التي تكفى لعدد كبير منن الناس وتشبه حياض الإبل .

{ وقدور راسيات . . . }

القدور جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار وغيره على شكل مخصوص . وراسيات ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها أي إن السماط كان عظيما بديعا فيه كثير من حسن الاتساق والجمال والضخامة .

{ اعملوا ءال داود شكرا وقليل من عبادي الشكور } .

أي أطيعوني واشكروني واستخدموا نعمتي فيما خلقت له والهجوا بذكري والصلاة والسلام والحمد لي يا آل داود .

{ وقليل من عبادي الشكور } .

والشكور هو الذي يشكر الله في جميع أحواله من الخير والشر فهو شاكر على النعماء وصابر على البأساء وهو راض بالقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره .

ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يقر إذا لاقى " . vii

قال ابن عباس الشكور هو الذي يشكر على أحواله كلها .

وقال الزمخشري في الكشاف : الشكور هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه وقد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافا واعتقادا وكدحا .

وقيل الشكور هو من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لها على ما لا نهاية .

على حد قول الشاعر :

إذا كان شكري نعمة الله نعمة *** على له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله *** وإن طالت الأيام واتسع العمر

إذا مس بالنعماء عم سرورها *** وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صابرا شاكرا قدوة ومثلا أعلى روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه فقلت له : أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال " أفلا أكون عبدا شكورا " . viii

ومن شكر النعمة التواضع والعفو والاستقامة قال صلى الله عليه وسلم : " أوصاني ربي بتسع الإخلاص لله في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أصل من قطعني وأعطي من حرمني وأعفو عمن ظلمني وأن يكون صمتي فكرا ونطقي ذكرا ونظري عبرة " .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

ولما أخبر تعالى أنه{[56549]} سخر له الجن ، ذكر حالهم في أعمالهم ، دلالة على أنه سبحانه يتصرف في السماء والأرض وما فيهما{[56550]} ومن فيهما بما يشاء فقال تعالى : { يعملون له } أي في أي وقت شاء { ما يشاء } أي عمله { من محاريب } أي أبنية شريفة من قصور ومساكن{[56551]} وغيرها هي أهل لأن يحارب عليها أو مساجد ، والمحراب مقدم كل مسجد ومجلس وبيت ، وكان مما عملوه له بيت المقدس جدرانه بالحجارة العجيبة البديعة والرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمده بأساطين المها الأبيض الصافي{[56552]} مرصعاً سقوفه وجدرانه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمسك والعنبر وسائر الطيب ، وبسط أرضه {[56553]}بألواح الفيروزج{[56554]} حتى كان أبهى بيت على وجه الأرض { وتماثيل } {[56555]}أي صوراً حساناً على تلك الأبنية فيها أسرار غريبة كما ذكروا أنهم صنعوا{[56556]} له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين في أعلاه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعين ، وإذا قعد أظله النسران ، ولم تكن التصاوير ممنوعة{[56557]} .

ولما ذكر القصور وزينتها ، ذكر آلات المأكل لأنها أول ما تطلب بعد الاستقرار في المسكن{[56558]} فقال : { وجفان } أي صحاف وقصاع{[56559]} يؤكل فيها { كالجواب } جمع جابية ، وهي الحوض الكبير الذي يجبى إليه الماء ، أي يجمع{[56560]} قيل : كان يجلس على الجفنة الواحدة ألف رجل .

ولما ذكر الصحاف على وجه يعجب منه ويستعظم ، ذكر{[56561]} ما يطبخ فيه طعامها فقال : { وقدور راسيات } أي ثابتات ثباتاً عظيماً بأن لا ينزع عن أثافيها لأنها لكبرها كالجبال . ولما ذكر المساكن وما تبعها ، أتبعها الأمر بالعمل إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ومن{[56562]} تبعه{[56563]} لا يلهيهم{[56564]} ذلك عن العبادة فقال : { اعملوا } أي وقلنا لهم : تمتعوا واعملوا ، دل على مزيد قربهم بحذف أداة النداء وعلى شرفهم بالتعبير بالآل فقال : { آل داود } أي كل ما يقرب إلى الله { شكراً } أي لأجل الشكر له سبحانه ، وهو تعظيمه في مقابلة نعمه ليزيدكم من فضله أو النصب على الحال أي شاكرين ، أو على تقدير : اشكروا شكراً ، لأن " اعملوا " فيه معنى " اشكروا " من حيث أن العمل للمنعم شكر له ، ويجوز أن تنتصب باعملوا مفعولاً بهم ومعناه أنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً - على طريق المشاكلة{[56565]} { وقليل } أي قلنا ذلك والحال أنه قليل .

{[56566]}ولما لم يقتض الحال العظمة لأنها{[56567]} بالمبالغة في الشكر أليق ، {[56568]}اسقط مظهرها{[56569]} فقال : { من عبادي الشكور * } أي المتوفر الدواعي بظاهره وباطنه من قلبه ولسانه وبدنه{[56570]} على الشكر بأن يصرف جميع ما أنعم الله عليه فيما يرضيه ، وعبر بصيغة فعول إشارة إلى أن من يقع منه{[56571]} مطلق الشكر{[56572]} كثير ، وأقل ذلك حال الاضطرار .


[56549]:في ظ: أن الله.
[56550]:زيد من م ومد.
[56551]:زيد من م.
[56552]:زيد من ظ وم ومد.
[56553]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالفيروز.
[56554]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالفيروز.
[56555]:بهامش م: الكشاف: التماثيل صور الملائكة والنبيين والصالحين: كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها ... فيعبدوا الله نحو عبادتهم.
[56556]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: صفعوا.
[56557]:بين سطري م: كما حكاه غير واحد منهم أبو العبادة.
[56558]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: السكن.
[56559]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: قطاع.
[56560]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: جمع.
[56561]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: فذكر.
[56562]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ما.
[56563]:في م ومد: تابعه.
[56564]:من م ومد، وفي الأصل وظ: لا يلههم.
[56565]:زيد ما بين الحاجزين من م.
[56566]:العبارة من هنا إلى "مظهرها فقال" ساقطة من مد.
[56567]:من ظ وم، وفي الأصل: لأنه.
[56568]:من ظ وم، وفي الأصل: أسقطها.
[56569]:من ظ وم، وفي الأصل: أسقطها.
[56570]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: يديه.
[56571]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: له.
[56572]:العبارة من "بأن يصرف" إلى هنا متكررة في ظ.