( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) . .
أي متجمعين متكتلين عليه ، حين قام يصلي ويدعو ربه . والصلاة معناها في الأصل الدعاء .
فإذا كانت من مقولات الجن ، فهي حكاية منهم عن مشركي العرب ، الذين كانوا يتجمعون فئات حول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يصلي أو وهو يتلو القرآن كما قال في " سورة المعارج " : فمال الذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين ? . . يتسمعون في دهش ولا يستجيبون . أو وهم يتجمعون لإيقاع الأذى به ، ثم يعصمه الله منهم كما وقع ذلك مرارا . . ويكون قول الجن هذا لقومهم للتعجيب من أمر هؤلاء المشركين !
وإذا كانت من أخبار الله ابتداء ، فقد تكون حكاية عن حال هذا النفر من الجن ، حين سمعوا القرآن . . العجب . . فأخذوا ودهشوا ، وتكأكأوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعضهم لصق بعض ، كما تكون لبدة الصوف المنسوق شعرها ، بعضه لصق بعض ! . . ولعل هذا هو الأقرب لمدلول الآية لاتساقه مع العجب والدهشة والارتياع والوهلة البادية في مقالة الجن كلها ! والله أعلم .
لبدا : جماعات ، شبهت بالشيء المتلبّد ، المتراكم بعضه فوق بعض ، من ازدحامهم عليه .
19- وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا .
وأنه لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبد ربه في صلاة الفجر في بطن نخلة ، ويؤم أصحابه خلفه في نظام وعبادة ، ومتابعة في الركوع والسجود ، تجمّع الجن وتراكموا متزاحمين ، متعجبين مما رأوه من عبادته ، ومما تلاه من القرآن العظيم .
واللبد : الشيء الذي تلبّد بعضه فوق بعض ، ولفظ : لبدا . جمع لبدة ، وهي الجماعة المتزاحمة ، ومنه لبدة الأسد للشعر المتزاحم في رقبته .
وقد وصف الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله ، تكريما وتشريفا له صلى الله عليه وسلم .
معنى الآية : لما قام عبد الله ( محمد ) صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ، ويعبده وحده ، مخالفا المشركين في عبادتهم ، كاد المشركون يزدحمون عليه ، متراكمين ، لا ليسمعوا ويطيعوا ، وإنما ليجدوا ثغرة او وسيلة ينفذون منها ، لتنفير الناس من القرآن الكريم .
والرأي الأول أرجح ، لأن الآثار قد وردت ، في أن الجن قد الفتوا حول النبي صلى الله عليه وسلم ، حين سمعوه يقرأ القرآن ، وهو الموافق للآية الأولى من سورة الجن .
قال الزبير بن العوام : هم الجن ، حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ، كادوا يركب بعضهم بعضا ، ازدحاما عليه .
{ عبد الله يدعوه } : أي محمد صلى الله عليه وسلم يدعو الله ببطن نخلة .
{ عليه لبدا } : أي في ركوب بعضهم بعضا تزاحما لأجل أن يسمعوا قراءته .
وقوله { وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } أي وأوحي إليّ أنّه لما قام عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يدعو ربّه في الصلاة ببطن نخلة كاد الجن أن يكونوا عليه لبدا أي كالشيء المتلبد بعضه فوق بعض .
قوله تعالى : " وأنه لما قام عبد الله يدعوه " يجوز الفتح ، أي أوحى الله إليه أنه . ويجوز الكسر على الاستئناف . و " عبد الله " هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن ، حسب ما تقدم أول السورة . " يدعوه " أي يعبده . وقال ابن جريج : " يدعوه " أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى . " كادوا يكونون عليه لبدا " قال الزبير بن العوام : هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم . أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون ، حرصا على سماع القرآن . وقيل : كادوا يركبونه حرصا ، قاله الضحاك . ابن عباس : رغبة في سماع الذكر . وروى برد عن مكحول : أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا ، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر . وعن ابن عباس أيضا : إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود . وقيل : المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا ، حردا على النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني " لما قام عبد الله " محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره . واختار الطبري أن يكون المعنى : كادت العرب يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به . وقال مجاهد : قوله " لبدا " جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع ؛ ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه{[15475]} ، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته ، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب . ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد ؛ قال زهير :
لدى أسدٍ شاكِي السِّلاَح مُقَذَّفٍ *** له لِبَدٌ أظفاره لم تقلَّم
ويقال للجراد الكثير : لبد وفيه أربع لغات وقراءات ، فتح الباء وكسر اللام ، وهي قراءة العامة . وضم اللام وفتح الباء ، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام ، واحدتها لبدة . وبضم اللام والباء ، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن . وبضم اللام وشد الباء وفتحها ، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا{[15476]} واحدها لابد ؛ مثل راكع وركع ، وساجد وسجد . وقيل : اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم ، ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه ، قال النابغة :
أخنى عليها الذي أخنى على لبد{[15477]}
القشيري : وقرئ " لبدا " بضم اللام والباء ، وهو جمع لبيد ، وهو الجولق{[15478]} الصغير . وفي الصحاح : [ وقوله تعالى ] " أهلكت مالا لبدا " أي جما{[15479]} .
ويقال أيضا : الناس لبد أي مجتمعون ، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [ منزله ]{[15480]} . قال الشاعر{[15481]} :
من امرئٍ ذي سَمَاحٍ لا تزال لهُ *** بَزْلاَءُ يَعْيَا بها الجَثَّامَة اللبَدُ
ويروى : اللبد . قال أبو عبيد : وهو أشبه .
والبزلاء : الرأي الجيد . وفلان نهاض ببزلاء{[15482]} : إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام ، قال الشاعر :
إني إذا شَغَلَتْ قوماً فروجَهُمُ *** رَحْبُ المسالك نهَّاضٌ بِبَزْلاَءِ ]{[15483]}
ولبد : آخر نسور لقمان ، وهو ينصرف ؛ لأنه ليس بمعدول . وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها ، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات{[15484]} سمر ، من أظب عفر ، في جبل وعر ، لا يمسها القطر ، أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر ، فاختار النسور ، وكان آخر نسوره يسمى لبدا ، وقد ذكرته الشعراء ، قال النابغة :
أضحت خلاءً وأمسى أهلُها احتَمَلُوا *** أخْنَى عليْهَا الذي أخنى على لُبَدِ
واللبيد : الجوالق الصغير ، يقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد . ولبيد : اسم شاعر من بني عامر .
ولما كان من يدعو سيده وينقطع إليه عاملاً للواجب عليه اللائق بأمثاله لا ينكر عليه ولا يعجب منه{[69185]} ، إنما يعجب ممن دعا غير سيده أو مال إليه أدنى ميل فيسأل عن سببه ، قال معجباً من القاسطين من الجن والإنس : { وأنه } أي وأوحي إليّ أو قال الجن لمن أطاعهم من قومهم حاكين ما رأوا من صلاته صلى الله عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه متعجبين من ذلك أن الشأن أو{[69186]} القصة العظيمة العجيبة { لما } قمت كادوا يكونون عليّ - هكذا كان الأصل ولكنه عبر بالعبد كما تقدم من أن من دعا{[69187]} سيده ولو كان ذلك السيد أحقر الموجودات لا يفعل به ذلك ، فكيف إذا كان{[69188]} سيده مالك الملك{[69189]} وملك الملوك { قام عبد الله } أي عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله { يدعوه } أي يدعو{[69190]} سيده دعاء عبادة من حيث{[69191]} كونه عبده ومن حيث كون{[69192]} سيده يسمع من دعاه ويجيبه .
ولما كان القاسطون أكثر الناس بل الناس{[69193]} كلهم في ذلك الزمان جناً وإنساً ، قال مبيناً لأنه{[69194]} يجوز على الأنبياء أن يؤذوا وينتقصوا رفعاً لدرجاتهم وتسلية لوراثهم وإن كانت رتبتهم تأبى ذلك ، { كادوا } أي قرب القاسطون من الفريقين الجن والإنس { يكونون عليه } أي على عبد الله { لبداً * } أي متراكمين بعضهم على بعض من شدة ازدحامهم حتى كان ذلك جبلة لهم تعجباً مما رأوا منه من عبادته وإرادة لرده عن ذلك ، وذلك أمر لا يعجب منه ، وإنما العجب ما {[69195]}فعلوا هم{[69196]} من عبادتهم لغيره سبحانه وتعالى ومن تعجبهم من عبادة عبده له وإخلاصه في دعائه ، وهو جمع لبد - بكسر اللام ، وقرىء بضم اللام جمع لبدة بضمها ، وهي ما{[69197]} تلبد بعضه{[69198]} على بعض .