وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين ، والبطر الذي يبطره المكذبون ، يضرب لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم ، شائعة بينهم ، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة ، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين ؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين ، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة ، وأن له ما بعده ، وأنهم غير متروكين لما هم فيه :
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ، ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، فأصبحت كالصريم . فتنادوا مصبحين : أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين . فانطلقوا وهم يتخافتون : ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . وغدوا على حرد قادرين . فلما رأوها قالوا : إنا لضالون ، بل نحن محرومون . قال أوسطهم : ألم أقل لكم لولا تسبحون ! قالوا : سبحان ربنا إنا كنا ظالمين . فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، قالوا : يا ويلنا إنا كنا طاغين ، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون . . كذلك العذاب ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . .
وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة ، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته ، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده . ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني .
ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج . ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة ، الذين كانوا يعاندون ويجحدون ، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد ، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة !
والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني في القرآن ؛ وفيه مفاجآت مشوقة كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده . وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع - أو القارئ - يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى . فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني :
ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة - جنة الدنيا لا جنة الآخرة - وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا . لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة - كما تقول الروايات - على أيام صاحبها الطيب الصالح . ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن ، وأن يحرموا المساكين حظهم . . فلننظر كيف تجري الأحداث إذن !
( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ، ولا يستثنون ) .
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر ، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين . وأقسموا على هذا ، وعقدوا النية عليه ، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه . . فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي يبيتوه ،
ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون . فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون ، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون ، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير ، وبخل بنصيب المساكين المعلوم . . إن هناك مفاجأة تتم في خفية . وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام . والناس نيام :
{ إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين 17 ولا يستثنون 18 فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون 19 فأصبحت كالصّريم 20 فتنادوا مصبحين 21 أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين 22 فانطلقوا وهم يتخافتون 23 أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين 24 وغدوا على حرد قادرين 25 فلما رأوها قالوا إنّا لضالون 26 بل نحن محرومون 27 قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون 28 قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين 29 فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون 30 قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين 31 عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون 32 كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون 33 }
بلوناهم : امتحنّاهم بألوان من البلاء والآفات .
ليصرمنّها : ليقطعن ثمارها بعد نضجها .
16- إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين .
اختبرنا أهل مكة بالمال والغنى والبلد الأمين ، لكنهم لم يشكوا هذه النعمة ، وكذّبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وشأنهم في ذلك شأن أصحاب الجنة ، وقصتهم مشهورة باليمن ، فقد كان البستان لرجل صالح يخرج زكاة بستانه ، ويجعل للمساكين بعد ذلك ما أخطأه الحاصد ، وما تبقّى تحت النخلة من ثمر ، فلما مات الأب أصرّ أبناؤه أن يقطعوا ثمار البستان في الصباح الباكر .
{ إنا بلوناهم } أي امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع ؛ حتى أكلوا الجيف بدعوته صلى الله عليه وسلم .
{ كما بلونا أصحاب الجنة } . المعروف خبرهم عندهم " ، وهم أصحاب بستان بأرض اليمن ، قريبا من صنعاء ورثوه عن أبيهم ، وكان يؤدي للمساكين حق الله فيه ؛ فلما مات بخلوا به ، فكان من أمرهم ما قصه الله في هذه السورة . { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } ليقطعن ثمارها بعد استوائها ، داخلين في وقت الصباح الباكر قبل أن تخرج المساكين ؛ من الصرم وهو القطع . يقال : صرم النخل – من باب ضرب – جزه ؛ ومنه الانصرام ، أي الانقطاع . ويقال : أصبح ، أي دخل وقت الصباح .
{ إنا بلوناهم } يعني اختبرنا أهل مكة بالقحط والجوع ، { كما بلونا } ابتلينا ، { أصحاب الجنة } روى محمد بن مروان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : في قوله عز وجل : { إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة } قال : كان بستان باليمن يقال له الضروان ، دون صنعاء بفرسخين ، يطؤه أهل الطريق ، كان غرسه قوم من أهل الصلاة ، وكان لرجل فمات فورثه ثلاثة بنين له ، وكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل ، إذا طرح من فوق النخل إلى البساط فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضاً للمساكين ، وإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين وإذا داسوا كان لهم كل شيء ينتثر أيضاً ، فلما مات الأب وورثه هؤلاء الإخوة عن أبيهم ، فقالوا : والله إن المال لقليل ، وإن العيال لكثير ، وإنما كان هذا الأمر يفعل إذ كان المال كثيراً والعيال قليلاً ، فأما إذا قل المال وكثر العيال فإنا لا نستطيع أن نفعل هذا ، فتحالفوا بينهم يوماً ليغدون غدوة قبل خروج الناس فليصرمن نخلهم ولم يستثنوا ، يعني : لم يقولوا إن شاء الله ، فغدا القوم بسدفة من الليل إلى جنتهم ليصرموها قبل أن يخرج المساكين ، فرأوها مسودة ، وقد طاف عليها من الليل طائف من العذاب فأحرقها ، فأصبحت كالصريم ، فذلك قوله عز وجل : { إذ أقسموا } حلفوا ، { ليصرمنها مصبحين } وليقطعن ثمرها إذا أصبحوا قبل أن يعلم المساكين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رجع في التقديم، فقال: {إنا بلوناهم} يقول: إنا ابتليناهم، يعني أهل مكة بالجوع {كما بلونا} يقول: كما ابتلينا {أصحاب الجنة} بالجوع حين هلكت جنتهم، كان فيها نخل وزرع وأعناب، ورثوها عن آبائهم... وكان آباؤهم صالحين، يجعلون للمساكين من الثمار والزرع والنخل...فقال القوم: كثرت العيال، وهذا طعام كثير، أغدوا سرا جنتكم فاصرموها، ولا تؤذنوا المساكين، كان آباؤهم يخبرون المساكين فيجتمعون عند صرام جنتهم، وعند الحصاد.
{إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين}، ليصرمنها إذا أصبحوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"إنّا بَلَوْناهُمْ": أي بلونا مشركي قريش، يقول: امتحناهم فاختبرناهم،
"كمَا بَلَوْنا أصحَابَ الجَنّةِ": كما امتحنا أصحاب البستان.
"إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنّها مُصْبِحِينَ": إذ حلفوا ليصرمُنّ ثمرها إذا أصبحوا.
والصرم: القطع، وإنما عنى بقوله "لَيَصْرِمُنّها": لَيَجُدّنّ ثمرتها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي امتحنَّاهم... حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم {كَمَا بلونا أصحاب الجنة}
{مُصْبِحِينَ} داخلين في الصبح مبكرين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أصحاب الجنة} فيما ذكر قوم إخوة كان لأبيهم جنة وحرث مغل فكان يمسك منه قوته، ويتصدق على المساكين بباقيه، وقيل بل كان يحمل المساكين معه في وقت حصاده وجذه، فيجذيهم منه، فمات الشيخ، فقال ولده: نحن جماعة وفعل أبينا كان خطأ، فلنذهب إلى جنتنا ولا يدخلها علينا مسكين، ولا نعطي منها شيئاً، قال: فبيتوا أمرهم وعزمهم على هذا، فبعث الله عليها بالليل طائفاً من نار أو غير ذلك، فاحترقت، فقيل: أصبحت سوداء، وقيل: بيضاء كالزرع اليابس المحصود، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها فحسبوا أنهم قد أخطأوا الطريق، ثم تبينوها فعلموا أن الله تعالى أصابهم فيها، فتابوا حينئذ وأنابوا وكانوا مؤمنين من أهل الكتاب، فشبه الله تعالى قريشاً بهم، في أنهم امتحنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهداه، كما امتحن أولئك بفعل أبيهم وبأوامر شرعهم، فكما حل بأولئك العقاب في جنتهم، كذلك يحل بهؤلاء في جميع دنياهم وفي حياتهم، ثم التوبة معرضة لمن بقي منهم كما تاب أولئك.
وقال كثير من المفسرين: السنون السبع التي أصابت قريشاً هي بمثابة ما أصاب أولئك في جنتهم.
اعلم أنه تعالى لما قال: لأجل أن كان ذا مال وبنين، جحد وكفر وعصى وتمرد، وكان هذا استفهاما على سبيل الإنكار بين في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان، وليصرفه إلى طاعة الله، وليواظب على شكر نعم الله، فإن لم يفعل ذلك فإنه تعالى يقطع عنه تلك النعم، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات فقال: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} أي كلفنا هؤلاء أن يشكروا على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة ذات الثمار، أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم،...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ذكر في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه، أعاد ذكر الابتلاء وأكده، لأن أعمالهم مع العلم بأنه عرض زائل أعمال من يظن الملك الثابت والتصرف التام، فقال: {إنا بلوناهم} أي عاملنا -على ما لنا من العظمة- الذين نسمهم على الخراطيم من قريش وسائر عبادنا بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، فغرهم ذلك وظنوا أنهم أحباب، ومن قترنا عليه من أوليائنا أعداء، فاستهانوا بهم، ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفه والجنون والضلال والفتون، فيوشك أن نأخذهم بغتة كما فعلنا بأصحاب الجنة، فكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ابتلي به، فإن آمن كان ممن أحسن عملاً، وإلا كان ممن أساء. ولما لم تعرف عامة أهل مكة نعمة الله عليهم به صلى الله عليه وسلم، أخرجه الله عنهم وأكرمه بأنصار جعله أكرم الكرامات لهم، وكل من سمع به ولم يؤمن فهو كذلك، تكون أعماله كهذه الجنة يظنها شيئاً فتخونه أحوجَ ما يكون إليها، أو كان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف فما تابوا.
{كما بلونا} أي اختبرنا بأن عاملنا معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، وحاصله أنه استخرج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة، كما يعلمه الخالق في عالم الغيب، أو أنه كناية عن الجزاء.
{أصحاب الجنة} عرفها لأنها كانت شهيرة عندهم...
{إذ} أي حين {أقسموا} ودل على تأكيد القسم فقال: {ليصرمنها} عبر به عن الجذاذ بدلالته على القطع البائن المعزوم عليه المستأصل المانع للفقراء ليكون قطعاً من كل وجه، من الصريم -لعود يعرض على فم الجدي لئلا يرضع، ومن الصرماء: المفازة لا ماء بها، والناقة القليلة اللبن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين، والبطر الذي يبطره المكذبون، يضرب لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم، شائعة بينهم، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين؛ ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة، وأن له ما بعده، وأنهم غير متروكين لما هم فيه:[...] وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده. ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني. ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج. ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة، الذين كانوا يعاندون ويجحدون، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة! والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني في القرآن؛ وفيه مفاجآت مشوقة كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده. وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع -أو القارئ- يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى. فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني: ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة -جنة الدنيا لا جنة الآخرة- وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا. لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة -كما تقول الروايات- على أيام صاحبها الطيب الصالح. ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن، وأن يحرموا المساكين حظهم.. فلننظر كيف تجري الأحداث إذن! (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون). لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين. وأقسموا على هذا، وعقدوا النية عليه، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه.. فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي يبيتوه، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون. فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير، وبخل بنصيب المساكين المعلوم.. إن هناك مفاجأة تتم في خفية. وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام. والناس نيام:...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}: ليقطعُنَّ ثمار الجنة في بدايات الصباح. وهذا نموذجٌ آخر من نماذج الناس الذين يستغرقون في المال الذي يملكونه، فيُنسيهم ذلك المعاني الإنسانية والمنطلقات الروحية التي تربط الإنسان بالجانب الخيّر من الحياة، ويدفعهم إلى المزيد من الطغيان المادي والبخل الذاتي، وإلى الأمل الكبير بالامتداد في ما هم عليه. ولكن الله يفاجئهم بالصدمة الكبيرة التي تقضي على كل الأمل من خلال القضاء على كل ما لديهم من مال، فتدفعهم الصدمة إلى التفكير بطريقةٍ أخرى بعد فوات الأوان. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أي هؤلاء الذين وصفهم الله بالصفات الشريرة التي كانت تطبع كل شخصياتهم المنحرفة، فقد كان المال الذي أعطاهم الله إيّاه اختباراً لهم، كيف يتعاملون معه، وهل أن المال يلغي إنسانيتهم بزخارفه وإيحاءاته المغرية، أو أن الإنسانية المنطلقة من موقع القيم الروحية المنفتحة على الله من جهةٍ وعلى الإنسان المحروم من جهة أخرى، هي التي تنتصر على إغراءات المال وتهاويله. وقد سقطوا في هذا الاختبار، فتغلّب عنصر المال لديهم على عنصر الإنسان في داخلهم، كما سقط غيرهم في ذلك، {كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} التي كانوا يملكونها ويعتزون بها ويعتبرونها الأساس في إغناء حاجاتهم الحياتية وفي تلبية أوضاعهم الاجتماعية، ولذلك كانوا يتعهدونها بكل الوسائل التي تتوفر لديهم في المحافظة عليها من كل سوءٍ، كما كانوا يبادرون إلى قطف ثمارها عند نضوجها بحيث لا يفوتهم شيءٌ منها، ولا يسمحون لأيّ شخص من الانتفاع بها، وهكذا رأيناهم في هذه الصورة القرآنية.
{ إنا بلوناهم } امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع { كما بلونا أصحاب الجنة } كما امتحنا أصحاب البستان بإحراقها وذهاب قوتهم منها وكانوا قوما بناحية اليمن وكان لهم أب وله جنة كان يتصدق فيها على المساكين فلما مات قال بنوه نحن جماعة وإن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، فحلفوا ليقطعن ثمرها بسدفة من الليل كيلا يشعر المساكين فيأتوهم وهو قوله { إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } .
الأولى- قوله تعالى : " إنا بلوناهم " يريد أهل مكة . والابتلاء الاختبار . والمعنى أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا وعادوا محمدا صلي الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم . وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء - ويقال بفرسخين - وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها ، فلما مات صارت إلى ولده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها ، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها . قال الكلبي : كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ، ابتلاهم الله بأن أحرق جنتهم . وقيل : هي جنة بضَوْرَان ، وضَوْرَان على فرسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى عليه السلام بيسير - وكانوا بخلاء - فكانوا يجدون التمر ليلا من أجل المساكين ، وكانوا أرادوا حصاد زرعها وقالوا : لا يدخلها اليوم عليكم مسكين ، فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها فأصبحت كالصريم ؛ أي كالليل . ويقال أيضا للنهار صريم . فإن كان أراد الليل فلسواد موضعها ، وكأنهم وجدوا موضعها حمأة . وإن كان أراد بالصريم النهار فلذهاب الشجر والزرع ونقاء الأرض منه . وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل عليه السلام فاقتلعها . فيقال : إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم ؛ ولذلك سميت الطائف . وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والأعناب والماء غيرها . وقال البكري في المعجم : سميت الطائف لأن رجلا من الصَّدِف{[15253]} يقال له الدَّمُون ، بنى حائطا وقال : قد بنيت لكم طائفا حول بلدكم ، فسميت الطائف . والله أعلم .
الثانية- قال بعض العلماء : على من حصد زرعا أو جد ثمرة أن يواسي منها من حضره ، وذلك معنى قوله : " وآتوا حقه يوم حصاده " [ الأنعام : 141 ] وأنه غير{[15254]} الزكاة على ما تقدم في " الأنعام " بيانه{[15255]} . وقال بعضهم : وعليه ترك ما أخطأه الحاصدون . وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا . وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل . فقيل : إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق . وتأول من قال هذا الآية التي في سورة " ن والقلم " . قيل : إنما نهي عن ذلك خشية الحيات وهوام الأرض .
قلت : الأول أصح ، والثاني حسن . وإنما قلنا الأول أصح ؛ لأن العقوبة كانت بسبب ، ما أرادوه من منع المساكين كما ذكر الله تعالى . روى أسباط عن السدي قال : كان قوم باليمن وكان أبوهم رجلا صالحا ، وكان إذا بلغ ثماره أتاه المساكين فما يمنعهم من دخولها وأن يأكلوا منها ويتزودوا ، فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض : علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين ! تعالوا فلندلج فنصرمنها قبل أن يعلم المساكين ، ولم يستثنوا ، فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفتا{[15256]} : لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين ، فذلك قوله تعالى : " إذ أقسموا " يعني حلفوا فيما بينهم " ليصر منها مصبحين " يعني لنجذنّها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين ، ولا يستثنون ، يعني لم يقولوا إن شاء الله . وقال ابن عباس : كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين ، غرسها رجل من أهل الصلاح وكان له ثلاثة بنين ، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم ، فإذا طرح على البساط فكل شيء سقط عن البساط فهو أيضا للمساكين ، فإذا حصدوا زرعهم فكل شيء تعداه المنجل فهو للمساكين ، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتثر ، فكان أبوهم يتصدق منها على المساكين ، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين ، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم . فقالوا : قل المال وكثر العيال ، فتحالفوا بينهم ليغدون غدوة قبل خروج الناس ثم ليصرمنها ولا تعرف المساكين . وهو قوله : " إذ أقسموا " أي حلفوا " ليصرمنها " ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسُدْفَة{[15257]} من الليل لئلا ينتبه المساكين لهم . والصرم القطع . يقال : صرم العذق عن النخلة . وأصرم النخل أي حان وقت صرامه . مثل أركب المهر وأحصد الزرع ، أي حان ركوبه وحصاده .
ولما ذكر في{[67521]} أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال ، وختم هنا بعيب من يغتر{[67522]} بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه ، أعاد ذكر الابتلاء وأكده ، لأن أعمالهم مع العلم بأنه عرض زائل أعمال{[67523]} من يظن الملك الثابت والتصرف{[67524]} التام ، فقال{[67525]} : { إنا بلوناهم } أي عاملنا{[67526]} - على ما لنا من العظمة - الذين نسمهم {[67527]}على الخراطيم من قريش{[67528]} وسائر عبادنا بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، فغرهم ذلك{[67529]} وظنوا أنهم أحباب ، ومن قترنا عليه من أوليائنا أعداء ، فاستهانوا بهم ، ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفه والجنون والضلال والفتون ، فيوشك أن نأخذهم بغتة كما فعلنا بأصحاب الجنة ، فكل{[67530]} من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ابتلي به ، فإن{[67531]} آمن كان ممن أحسن عملاً ، وإلا كان ممن أساء .
ولما لم تعرف عامة أهل مكة نعمة الله عليهم به صلى الله عليه وسلم ، أخرجه الله عنهم وأكرمه بأنصار جعله أكرم الكرامات لهم ، وكل من سمع به ولم يؤمن فهو كذلك ، تكون أعماله كهذه الجنة يظنها شيئاً{[67532]} فتخونه أحوجَ ما يكون إليها ، أو كان{[67533]} ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف {[67534]}فما تابوا{[67535]} كما تاب { كما بلونا } أي اختبرنا بأن عاملنا{[67536]} معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن ، وحاصله أنه استخرج ما في البواطن{[67537]} ليعلمه العباد في عالم الشهادة ، كما يعلمه الخالق في عالم الغيب ، أو أنه كناية عن الجزاء { أصحاب الجنة } عرفها لأنها كانت شهيرة عندهم ، وهي بستان عظيم{[67538]} كان دون صنعاء بفرسخين ، يقال له الضروان ، يطأه أهل الطريق ، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ، ويترك لهم ما أخطأ المنجل ، أو ألقته الريح ، أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة ، فلما مات ، شح بنوه بذلك فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس ، حتى لا يأتي الفقراء إلا بعد فراغهم ، وذلك معنى قوله تعالى : { إذ } أي حين { أقسموا } ودل على تأكيد القسم فقال : { ليصرمنها } عبر به عن الجذاذ بدلالته على القطع البائن المعزوم عليه المستأصل المانع للفقراء ليكون قطعاً من كل وجه ، من الصريم - لعود يعرض على{[67539]} فم الجدي لئلا يرضع ، ومن الصرماء : المفازة لا ماء بها ، والناقة القليلة اللبن { مصبحين * } أي داخلين في أول وقت الصباح .