( غافر الذنب ) . . الذي يعفو عن ذنوب العباد ، بما يعلمه - سبحانه - من استحقاقهم للغفران .
( وقابل التوب ) . . الذي يتوب على العصاة ، ويتقبلهم في حماه ، ويفتح لهم بابه بلا حجاب .
( شديد العقاب )الذي يدمر على المستكبرين ويعاقب المعاندين ، الذين لا يتوبون ولا يستغفرون .
( ذي الطول ) . . الذي يتفضل بالإنعام ، ويضاعف الحسنات ، ويعطي بغير حساب .
( لا إله إلا هو ) . . فله الألوهية وحده لا شريك له فيها ولا شبيه .
إليه المصير . . فلا مهرب من حسابه ولا مفر من لقائه . وإليه الأوبة والمعاد .
وهكذا تتضح صلته بعباده وصلة عباده به . تتضح في مشاعرهم وتصوراتهم وإدراكهم ، فيعرفون كيف يعاملونه في يقظة وفي حساسية ؛ وفي إدراك لما يغضبه وما يرضيه .
وقد كان أصحاب العقائد الأسطورية يعيشون مع آلهتهم في حيرة ، لا يعرفون عنها شيئاً مضبوطاً ؛ ولا يتبينون ماذا يسخطها وماذا يرضيها ، ويصورونها متقلبة الأهواء ، غامضة الاتجاهات ، شديدة الانفعالات ، ويعيشون معها في قلق دائم يتحسسون مواضع رضاها ، بالرقى والتمائم والضحايا والذبائح ، ولا يدرون سخطت أم رضيت إلا بالوهم والتخمين !
فجاء الإسلام واضحاً ناصعاً ، يصل الناس بإلههم الحق ، ويعرفهم بصفاته ، ويبصرهم بمشيئته ويعلمهم كيف يتقربون إليه ، وكيف يرجون رحمته ، ويخشون عذابه ، على طريق واضح قاصد مستقيم .
غافر الذنب : يغفر الذنب لمن تاب إليه ورجع إلى طاعته بعد معصيته .
قابل التوب : يقبل توبة التائب النادم .
شديد العقاب : لمن عصى الله وأعرض عن هديه .
ذي الطول : صاحب الغنى والسعة .
لا إله إلا هو : لا معبود بحق إلا الله .
إليه المصير : إليه مرجع الخلائق .
3- { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } .
من صفات الله المغفرة والستر على المذنبين ، وقبول توبة التائبين ، وهو سبحانه شديد العقاب لمن أعرض عنه ، وأصم أذنه عن سماع القرآن وألوان الهداية ، وهو سبحانه صاحب الفضل وجلائل النّعم ، فمن وجد الله وجد كل شيء ، ومن فقد الله فقد كل شيء ، وهو سبحانه واحد أحد ، فرد صمد ، متفرد بالألوهية ، متوحّد بالربوبية ، فلا معبود بحق إلا الله ، وإليه سبحانه المصير والمرجع ، فيحاسب العباد ويجازيهم على أعمالهم ، بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا .
قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } ( الزلزلة : 7 ، 8 ) .
روى أن رجلا من أهل الشام ذا بأس كان يفد على عمر بن الخطاب ، فافتقده عمر ، فسأل عنه فقالوا : تتابع في الشراب ، فكتب عمر إليه كتابا قال فيه : أما بعد . . فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } . فجعل الرجل يقرأ الخطاب ، ثم بكى ونزع عن المعاصي وتاب إلى الله تعالى ، فقال عمر : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم زلّ زلة فسددوه ووقفوه . وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه .
{ غافر الذنب . . . } هو وما بعده صفات للاسم الجليل . وكلها للترغيب إلا الثالثة فإنها للترهيب . ومجموعها للحث على ما هو مقصود من إنزال الكتاب ، وهو المذكور بعد : من التوحيد والإيمان البعث المستلزم للإيمان سواهما ، الإقبال على الله تعالى . و " غافر " أي ساتر ؛ من الغفر وهو الستر والتغطية . يقال : غفر الله ذنبه يغفره غفرا ومغفرة وغفرانا وغفيرا ، غطى عليه وعفا عنه . والذنب : كل فعل تستوخم عقباه ؛ أخذا من ذنب الشيء . وجمعه ذنوب . والله تعالى غافر وغفار وغفور وذو مغفرة
للذنوب . { وقابل التوب } أي الرجوع عن الذنب والتوبة منه . مصدر كالأوب بمعنى الرجوع . أو اسم جمع لتوبة . { ذي الطول } ذي الفضل بالثواب والإنعام . أو بهما وبترك العقاب . والطول : السعة والغنى . أو القدرة أو الإنعام .
{ غَافِرِ الذَّنْبِ } للمذنبين { وَقَابِلِ التَّوْبِ } من التائبين ، { شَدِيدِ الْعِقَابِ } على من تجرأ على الذنوب ولم يتب منها ، { ذِي الطَّوْلِ } أي : التفضل والإحسان الشامل .
فلما قرر ما قرر من كماله وكان ذلك موجبًا لأن يكون وحده ، المألوه الذي تخلص له الأعمال قال : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
ووجه المناسبة بذكر نزول القرآن من الله الموصوف بهذه الأوصاف أن هذه الأوصاف مستلزمة لجميع ما يشتمل عليه القرآن ، من المعاني .
فإن القرآن : إما إخبار عن أسماء الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وهذه أسماء ، وأوصاف ، وأفعال .
وإما إخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة ، فهي من تعليم العليم لعباده .
وإما إخبار عن نعمه العظيمة ، وآلائه الجسيمة ، وما يوصل إلى ذلك ، من الأوامر ، فذلك يدل عليه قوله : { ذِي الطَّوْلِ }
وإما إخبار عن نقمه الشديدة ، وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي ، فذلك يدل عليه قوله : { شَدِيدِ الْعِقَابِ }
وإما دعوة للمذنبين إلى التوبة والإنابة ، والاستغفار ، فذلك يدل عليه قوله : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ }
وإما إخبار بأنه وحده المألوه المعبود ، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على ذلك ، والحث عليه ، والنهي عن عبادة ما سوى الله ، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على فسادها والترهيب منها ، فذلك يدل عليه قوله تعالى : { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }
وإما إخبار عن حكمه الجزائي العدل ، وثواب المحسنين ، وعقاب العاصين ، فهذا يدل عليه قوله : { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }
قوله تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب } ساتر الذنب { وقابل التوب } يعني : التوبة مصدر تاب يتوب توباً . وقيل : التوب جمع توبة ، مثل دومة ودوم ، وحومة وحوم ، قال ابن عباس { غافر الذنب } لمن قال لا إله إلا الله { قابل التوب } ممن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله { شديد العقاب } لمن لا يقول لا إله إلا الله { ذي الطول } ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله . قال مجاهد : ذي الطول ذي السعة والغنى ، وقال الحسن : ذو الفضل ، وقال قتادة : ذو النعم ، وقيل : ذو القدرة . وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه . { لا إله إلا هو إليه المصير* }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وفي قوله:"غافِرِ الذّنْبِ"، وجهان أحدهما: أن يكون بمعنى يغفر ذنوب العباد، وإذا أريد هذا المعنى، كان خفض "غافر "و"قابل "من وجهين، أحدهما من نية تكرير «من»، فيكون معنى الكلام حينئذ: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، من غافر الذنب، وقابل التوب... والآخر أن يكون أجرى في إعرابه، وهو نكرة على إعراب الأوّل كالنعت له، لوقوعه بينه وبين قوله: "ذِي الطّوْلِ" وهو معرفة... والآخر: أن يكون معناه: أن ذلك من صفته تعالى، إذ كان لم يزل لذنوب العباد غفورا من قبل نزول هذه الآية وفي حال نزولها، ومن بعد ذلك، فيكون عند ذلك معرفة صحيحة ونعتا على الصحة. وقال: "غافِرِ الذّنْبِ" ولم يقل الذنوب، لأنه أريد به الفعل، وأما قوله: "وَقابِلِ التّوْبِ" فإن التوب قد يكون جمع توبة...وقد يكون مصدر تاب يتوب توبا...
وقوله: "شَدِيد العقابِ" يقول تعالى ذكره: شديد عقابه لمن عاقبه من أهل العصيان له، فلا تتكلوا على سعة رحمته، ولكن كونوا منه على حذر، باجتناب معاصيه، وأداء فرائضه، فإنه كما أن لا يؤيس أهل الإجرام والآثام من عفوه، وقبول توبة من تاب منهم من جرمه، كذلك لا يؤمنهم من عقابه وانتقامه منهم بما استحلوا من محارمه، وركبوا من معاصيه.
وقوله: "ذِي الطّوْلِ" يقول: ذي الفضل والنعم المبسوطة على من شاء من خلقه يقال منه: إن فلانا لذو طَوْل على أصحابه، إذا كان ذا فضل عليهم...
وقوله: "لا إلَهَ إلاّ هوَ إلَيْهِ المَصِيرُ" يقول: لا معبود تصلح له العبادة إلا الله العزيز العليم، الذي صفته ما وصف جلّ ثناؤه، فلا تعبدوا شيئا سواه. "إلَيْهِ المَصِيرُ" يقول تعالى ذكره: إلى الله مصيركم ومرجعكم أيها الناس، فإياه فاعبدوا، فإنه لا ينفعكم شيء عبدتموه عند ذلك سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{غَافِرِ الذّنب} يخرّج على وجهين:
أحدهما: {غافر الذنب} أي متجاوز الذنب، وهو في حق المؤمنين خاصة.
والثاني: {غافر الذنب} أي ساتر الذنب، وهو يحتمل للكافر والمؤمن جميعا، فإنه يستر كثيرا على المؤمن والكافر جميعا في الدنيا، ولم يفضحهما، ويتجاوز عن المؤمن خاصة في الآخرة.
{وقابل التّوب} يخبر أنه يقبل التوبة، وإن عظُمت المعصية، وجلّت الذنوب، وكثرت.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كتابٌ مُعَنْوَنٌ بقبول توبته لِعِبادَه؛ عَلِمَ أنّ العاصيَ مُنكَسِرُ القلبِ فأزال عنه الانكسارَ بأن قدَّمَ نصيبه، فقدَّم اسمَه على قبول التوبة. فَسَكَّنَ نفوسَهم وقلوبَهم باسْمَيْنِ يُوجِبَان الرجاء؛ وهما قولُه: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}. ثم عقبها بقوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} ثم لم يرض حتى قال بعدئذٍ {ذِي الطَّولِ}...
{إلَيْهِ الْمَصِيرُ}: وإذا كان إليه المصير فقد طاب إليه المسير...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً، والموصوف معرفة يقتضي أن يكون مثله معارف؟
قلت: {أمّا غافر الذنب وقابل التوب} فمعرفتان؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين، وأنه يغفر الذنب ويقبل التوب الآن أو غداً حتى يكونا في تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقية؛ وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه...
فإن قلت: ما بال الواو في قوله: (وقابل التوب)؟ قلت: فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {شديد العقاب}: صفة، وقيل بدل، ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله: {ذي الطول} أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه، فترتب في الآية بين وعدين، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه... سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه: لن يغلب عسر يسرين يريد في قوله تعالى {فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً}...
هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل؛ لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب، وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة، وهو قوله {ذي الطول}، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقا بتينك الصفتين وملحوقا بهذه الصفة، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه.
{شَدِيد الْعِقَابِ} أي: لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله، وبغى [وقد اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف]. وهذه كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} [الحجر: 49، 50] يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضع متعددة من القرآن؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف...
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: لا نظير له في جميع صفاته، فلا إله غيره، ولا رب سواه.
{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم آخر تلك، أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران -وهو محو الذنب عيناً وأثراً- مترتباً على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله:
{غافر الذنب} أي بتوبة وغير توبة إن شاء...
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون: قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي، فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال: {وقابل التوب} وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة.
ولما كان الاقتصار على الترغيب ربما أطمع عذر المتمادي من سطوته، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة؛ لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} [النحل: 61]؛ فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ: {شديد العقاب} على أن تنكيره وإبهامه -كما قال الزمخشري- للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها.
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معرياً عن الواو؛ لأن المقام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض؛ فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه: {ذي الطول} أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال: {لا إله إلا هو}.
ولما أنتج هذا كله تفرده، أنتج قطعاً قوله: {إليه} أي وحده {المصير} أي في المعنى في الدنيا، وفي الحس والمعنى في الآخرة، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس؛ فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه؛ لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
... ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب بالعقوبة أتبعه التشويق إلى الفضل فقال تعالى {ذي الطول} أي: سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة فلا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فلما قرر ما قرر من كماله وكان ذلك موجبًا لأن يكون وحده، المألوه الذي تخلص له الأعمال قال: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ووجه المناسبة بذكر نزول القرآن من الله الموصوف بهذه الأوصاف أن هذه الأوصاف مستلزمة لجميع ما يشتمل عليه القرآن، من المعاني. فإن القرآن: إما إخبار عن أسماء الله، وصفاته، وأفعاله، وهذه أسماء، وأوصاف، وأفعال. وإما إخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة، فهي من تعليم العليم لعباده. وإما إخبار عن نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، وما يوصل إلى ذلك، من الأوامر، فذلك يدل عليه قوله: {ذِي الطَّوْلِ} وإما إخبار عن نقمه الشديدة، وعما يوجبها ويقتضيها من المعاصي، فذلك يدل عليه قوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} وإما دعوة للمذنبين إلى التوبة والإنابة، والاستغفار، فذلك يدل عليه قوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وإما إخبار بأنه وحده المألوه المعبود، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على ذلك، والحث عليه، والنهي عن عبادة ما سوى الله، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية على فسادها والترهيب منها، فذلك يدل عليه قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وإما إخبار عن حكمه الجزائي العدل، وثواب المحسنين، وعقاب العاصين، فهذا يدل عليه قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فهذا جميع ما يشتمل عليه القرآن من المطالب العاليات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا تتضح صلته بعباده وصلة عباده به. تتضح في مشاعرهم وتصوراتهم وإدراكهم، فيعرفون كيف يعاملونه في يقظة وفي حساسية؛ وفي إدراك لما يغضبه وما يرضيه. وقد كان أصحاب العقائد الأسطورية يعيشون مع آلهتهم في حيرة، لا يعرفون عنها شيئاً مضبوطاً؛ ولا يتبينون ماذا يسخطها وماذا يرضيها،
فجاء الإسلام واضحاً ناصعاً، يصل الناس بإلههم الحق، ويعرفهم بصفاته، ويبصرهم بمشيئته ويعلمهم كيف يتقربون إليه، وكيف يرجون رحمته، ويخشون عذابه، على طريق واضح قاصد مستقيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف. ووصْفُ الله بوصفي {العَزِيز العَليم} [غافر: 2] هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله.
وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف {العَزِيز الحكيم} [الزمر: 1] على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف {الحكيم في سورة الزمر. ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن. وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته، وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم.
{وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]. وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف {غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول} ترشيح لذلك التعريضِ كأنه يقول: إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم؛ لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب، فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم.
وتقديم {غافر} على {قابل التوب} مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ {غافر الذنب وقابل التوب} تعريض بالترغيب، وصِفتا {شَدِيد العقاب ذِي الطَّول} تعريض بالترهيب.
والتوبُ: مصدر تاب، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه.
{شديد العقاب} إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله {تنزيلُ الكِتَاب مِن الله} يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب.
والمراد {بغافر} و {قابل} أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى؛ إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل، وهو غير عامل عمَل الفعل، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا...
والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال، ويطلق على مطلق القدرة كما في « القاموس»، وظاهرُه الإِطلاقُ، وأقره في « تاج العروس» وجعله من معنى هذه الآية ووقوعُه مع {شديد العقاب} ومزاوجتها بوصفي {غافر الذنب وقابل التوب} ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف {شديد العِقَاب}، وبعذاب الدنيا من وصف {ذِي الطَّوْل} كقوله: {أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} [الزخرف: 42]، وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير، أي المرجع إليه تسجيلاً لبطلان الشرك وإفساداً لإِحالتهم البعث؛ فجملة {لا إله إلاَّ هو} في موضع الصفة، وأتبع ذلك بجملة {إليه المَصِير} إنذاراً بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات {غَافِر الذَّنب وقَابِل التَّوبِ شَدِيد العِقَاب} أثير في الكلام الإِطماعُ والتخويفُ فكان حقيقاً بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم، وتقديم المجرور في {إليه المَصِيرُ} للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين: حرف لين، وحرف صحيح مثل: العليم.
وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال...
قوله تعالى : " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " قال الفراء : جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة . وقال الزجاج : هي خفض على البدل . النحاس : وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن " غافر الذنب وقابل التوب " يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين ، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين ، ولا يجوز أن يكونا نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل ، ويجوز النصب على الحال ، فأما " شديد العقاب " فهو نكره ويكون خفضه على البدل . قال ابن عباس : " غافر الذنب " لمن قال : " لا إله إلا الله " " وقابل التوب " ممن قال : " لا إله إلا الله " " شديد العقاب " لمن لم يقل : " لا إله إلا الله " . وقال ثابت البناني : كنت إلى سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا تمر فيه الدواب ، قال : فاستفتحت " حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " فمر علي رجل على دابة فلما قلت " غافر الذنب " قال : قل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ، فلما قلت : " قابل التوب " قال : قل يا قابل التوب تقبل توبتي ، فلما قلت : " شديد العقاب " قال : قل يا شديد العقاب اعف عني ، فلما قلت : " ذي الطول " قال : قل يا ذا الطول طل علي بخير ، فقمت إليه فأخذ ببصري ، فالتفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا . وقال أهل الإشارة : " غافر الذنب " فضلا " وقابل التوب " وعدا " شديد العقاب " عدلا " لا إله إلا هو إليه المصير " فردا . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان ، سلام عليك ، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو : " بسم الله الرحمن . حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته . فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه . و " التوب " يجوز أن يكون مصدر تاب يتوب توبا ، ويحتمل أن يكون جمع توبة نحو دَوْمة ودَوْم وعَزْمة وعَزْم ، ومنه قوله{[13355]} :
ويجوز أن يكون التوب بمعنى التوبة . قال أبو العباس : والذي يسبق إلى قلبي أن يكون مصدرا ، أي يقبل هذا الفعل ، كما تقول قالا قولا ، وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات . " ذي الطول لا إله إلا هو " على البدل وعلى النعت ؛ لأنه معرفة . وأصل الطول الإنعام والفضل يقال منه : اللهم طل علينا أي أنعم وتفضل . قال ابن عباس : " ذي الطول " ذي النعم . وقال مجاهد : ذي الغنى والسعة ، ومنه قوله تعالى : " ومن لم يستطع منكم طولا " [ النساء : 25 ] أي غنى وسعة . وعن ابن عباس أيضا : " ذي الطول " ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله . وقال عكرمة : " ذي الطول " ذي المن . قال الجوهري : والطول بالفتح المن ، يقال منه طال عليه وتطول عليه إذا امتن عليه . وقال محمد بن كعب : " ذي الطول " ذي التفضل . قال الماوردي : والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب . والتفضل إحسان غير مستحق . والطول مأخوذ من الطول كأنه طال بإنعامه على غيره . وقيل : لأنه طالت مدة إنعامه . " إليه المصير " أي المرجع .
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين ، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح ، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن ، وكان الغفران - وهو محو الذنب عيناً وأثراً - مترتباً على العلم به ، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة ، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله : { غافر الذنب } أي بتوبة وغير توبة إن شاء ، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة . قال السمين : نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة ، ولم يستثن الكوفيون شيئاً .
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك ، وكان المشركون يقولون : قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا ، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال : { وقابل التوب } وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة . ولما كان الاقتصار على الترغيب ربما أطمع عذر المتمادي من سطوته ، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن ، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه ، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في
{ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم }[ النحل : 61 ] فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ : { شديد العقاب * } على أن تنكيره وإبهامه - كما قال الزمخشري - للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر ، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها .
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ ، أتبعه التشويق إلى الفضل ، فقال معرياً عن الواو لأن المقام لا يقتضي المبالغة ، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه : { ذي الطول } أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة ، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه ، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال : { لا إله إلا هو } ولما أنتج هذا كله تفرده ، أنتج قطعاً قوله : { إليه } أي وحده { المصير * } أي في المعنى في الدنيا ، وفي الحس والمعنى في الآخرة ، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً ، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس ، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه ، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده .