ثم يحدثهم عن خصومهم ، من هم في ميزان الله ? وكيف ينظر إلى أعمالهم وصدهم للمؤمنين عن بيته الحرام . وكيف ينظر إليهم هم عكس ما ينظر إلى خصومهم المعتدين :
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ، والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ؛ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . .
هم في ميزان الله واعتباره ، الكافرون حقا ، الذين يستحقون هذا الوصف الكريه : ( هم الذين كفروا ) . . يسجله عليهم كأنهم متفردون به ، عريقون في النسبة إليه ، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين ! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر ، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام ، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع :
( وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . .
وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام . كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم . كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين . . فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير . كلا ! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين :
( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم . . )
فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا ، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين . ولو دارت الحرب ، وهاجم المسلمون مكة ، وهم لا يعرفون أشخاصهم ، فربما وطأوهم وداسوهم وقتلوهم . فيقال : إن المسلمين يقتلون المسلمين ! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون . .
ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، من قسمت له الهداية ، ومن قدر له الله الدخول في رحمته ، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته ؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال ، ولعذب الكافرين العذاب الأليم :
( ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) . .
وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره .
وصدوكم : ومنعوكم من الوصول إليه .
والهدى : وصدوا عن الهدى ، وهو ما يقدم قربانا لله حين أداء مناسك الحج أو العمرة .
معكوفا : محبوسا عن الوصول إلى الحرم .
محله : المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو منى .
تطؤوهم : تدوسوهم بأقدامكم ، والمراد أن تبيدوهم وتهلكوهم .
25- { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله . . . }
هم أهل مكة الذين كفروا بالله وبرسوله ، ومنعوكم من دخول المسجد الحرام معتمرين مسالمين ، ومنعوا الهدي من الإبل والبقرة والغنم أن يتقدم إلى منى ليذبح ، فلما أحضر المسلمون عند الحديبية ذبحوا الهدي في الحديبية ، وكان المسلمون قد ساقوا بين أيديهم سبعين بدنة ، وذبحوا البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة -كما ورد في صحيح مسلم- وتحلل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه وذبح بدنة .
روى البخاري ، عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه .
{ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم . . . }
كان هناك في مكة ثلاثة رجال وتسع نسوة يخفون إيمانهم خوفا من أهل مكة ، ولو حدث قتال لوطئهم المسلمون ، أي قتلوهم خطأ بدون عمد .
لولا وجود هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم -وهم بين أهل مكة- لسلطانكم عليهم فقتلتموهم ، ولو قاتلتم أهل مكة وانتصرتم عليهم ، لقتل قوم من ضعفاء المؤمنين والمؤمنات ، أنتم لا تعرفونهم حين تقتلونهم ، ثم تتألمون وتحزنون بعد قتلهم ، وتصيبكم معرة ألم ، وربما تجرأ الكفار وقالوا لكم : قتلتم إخوانكم المسلمين بأيديكم ، لهذه الاعتبارات يسر الله أمر الصالح مع أهل مكة .
{ ليدخل الله في رحمته من يشاء . . . }
ليحفظ هؤلاء الضعفاء من المؤمنين بفضله ورحمته ، أو ليدخل في دين الإسلام من أراد الله هدايته قبل فتح مكة .
{ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . . . }
لو تميز الكفار من المؤمنين المقيمين بين أظهرهم ، لنصرناكم على الكافرين من أهل مكة ، وقهرناهم بالسبى والقتل ، وغير ذلك من ضروب التنكيل الشديد ، والإيلام العظيم .
الهدي : ما يقدَّم قربانا لله في مناسك الحج والعمرة من الأنعام .
محله : المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو مِنى .
لو تزيّلوا : لو تفرقوا وتميزوا .
بعد أن بين الله أنه كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين ، وكف أيدي الكافرين عن المؤمنين ، ذكر هنا أن المكان هو البيتُ الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه ، فيقول : إن أهل مكة هم الذين كفروا ومنعوكم من دخول المسجِد الحرام ومنعوا الهَدْيَ الذي سُقتموه معكم تقرباً إلى الله من بلوغِ مكانه الذي يُنحر فيه .
ثم وضّح أكثر أن في مكة مؤمنين ومؤمناتٍ لا تعلمونهم ، ولولا كراهةُ أن تصيبوهم فتقتلوهم بغير علم بهم ، فتكونوا قتلتم إخوانكم فيلحقكم من أجل قتلهم { مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أيْ عار وخزي - لسلطانكم عليهم .
ثم أكد ميزة هذا الصلح العظيم بقوله تعالى : { لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي ليفتح الباب أمام الذين يرغبون في دخول دين الله . وبين بوضوح بأنه لو أمكن تميُّز المسلمين من الكفار في مكة لسلّط المؤمنين على الكافرين ولعاقبهم عقاباً أليما .
{ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } : أي بالله ورسوله ومنعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام .
{ والهدي معكوفا أن يبلغ محله } : أي ومنعوا الهدي محبوسا حال بُلوغ محله من الحرم .
{ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } : أي موجودون في مكة .
{ لم تعلموهم } : أي لم تعرفوهم مؤمنين ومؤمنات .
{ أن تطأوهم } : أي قتلا لهم عند قتالكم المشركين بمكة .
{ فتصيبكم منهم معرة بغير علم } : أي إثم وديات قتل الخطأ وعتق أو صيام لأَذِن لكم الله تعالى في دخول مكة .
{ ليدخل الله في رحمته من يشاء } : أي لم يؤذن لكم في دخول مكة فاتحين ليدخل الله في الإِسلام من يشاء .
{ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما } : أي لو تميزوا فكان المؤمنون على حدة والكافرون على منهم حدة لأذنا لكم في الفتح وعذبنا الذين كفروا بأيديكم عذابا أليما وذلك بضربهم وقتلهم .
ما زال السياق الكريم في الحديث عن صلح الحديبية فقال تعالى في المشركين ذاماً عائبا عليهم صنيعهم { هم الذين كفروا } أي بالله ورسوله وصدوكم عن المسجد الحرام أن تدخلوه وأنتم محرمون والهدي معكوفاً أي وصدوا الهدي الحال أنه محبوس يُنْتَظَرُ به دخول مكة لينحر وقوله تعالى { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } بمكة لم تعلموهم لأنهم كانا يخفون إسلامهم غالباً ، كراهة أن تطأوهم أثناء قتالكم المشركين فتصيبكم منهم معرّة بغير علم منكم بهم والمعرة العيب والمراد به هنا التبعة وما يلزم من قتل المسلم خطأ من الكفارة والدية لولا هذا لأذن لكم في دخول مكة غازين فاتحين لها وقوله تعالى { ليدخل الله في رحمته من يشاء } أي لم يأذن لكم في القتال ورضي لكم بالصلح ليدخل في رحمته من يشاء فالمؤمنون نالتهم رحمة الله إذ لم يؤذوا بدخولكم مكة فاتحين والمشركون قد يكون تأخر الفتح سببا في إسلام من شاء الله تعالى له الإِسلام لا سيما عندما رأوا رحمة الإِسلام تتجلى في تلك القتال رحمة بالمؤمنين والمؤمنات حتى لا يتعرضوا للأذى فدين يراعي هذه الأخوة دين لا يحرم منه عاقل .
وقوله تعالى { لو تزيلوا } أي لو تميّز المؤمنون والمؤمنات عن المشركين بوجودهم في مكان خاص بهم لأذناً لكم في دخول مكة وقتال المشركين وعذَّبناهم بأيديكم عذاباً أليما .
- بيان حكم المحصر وهو من منع دخول المسجد الحرام وهو محرم بحجج أو بعمرة فإِنه يتحلل بذبح هدي ويعود إلى بلاده ، ويذبح الهدي حيث أُحصِر ، وليس واجبا إدخاله إلى الحرم .
- الأخذ بالحيطة في معاملة المسلمين حتى لا يؤذى مؤمن أو مؤمنةً بغير علم .
الأولى- قوله تعالى : " هم الذين كفروا " يعني قريشا ، منعوكم دخول المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعمرة ، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله . وهذا كانوا لا يعتقدونه ، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم حمية الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا ، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه ، وأدخل الأنس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانه ووعده .
الثانية- قوله تعالى : " والهدي معكوفا " أي محبوسا . وقيل موقوفا{[14021]} . وقال أبو عمرو بن العلاء : مجموعا . الجوهري : عَكَفَه أي حبسه ووقفه ، يعكِفه ويعكُفه عكفا ، ومنه قوله تعالى : " والهدي معكوفا " ، يقال : ما عكفك عن كذا . ومنه الاعتكاف في المسجد وهو الاحتباس . " أن يبلغ محله " أي منحره ، قاله الفراء . وقال الشافعي رضي الله عنه : الحرم . وكذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، المحصر محل هديه الحرم . والمحل ( بكسر الحاء ) : غاية الشيء . ( وبالفتح ) : هو الموضع الذي يحله الناس . وكان الهدي سبعين بدنة ، ولكن الله بفضله جعل ذلك الموضع له محلا . وقد اختلف العلماء في هذا على ما تقدم بيانه في " البقرة " عند قوله تعالى : " فإن أحصرتم " {[14022]} والصحيح ما ذكرناه . وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . وعنه قال : اشتركنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة . فقال رجل لجابر : أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال : ما هي إلا من البدن . وحضر جابر الحديبية قال : ونحرنا يومئذ سبعين بدنة ، اشتركنا كل سبعة في بدنة . وفي البخاري عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه . قيل : إن الذي حلق رأسه يومئذ خراش بن أمية بن أبي العيص الخزاعي ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينحروا ويحلوا ، ففعلوا بعد توقف كان منهم أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت له أم سلمة : لو نحرت لنحروا ، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه ونحروا بنحره ، وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة . ورأى كعب بن عجرة والقمل يسقط على وجهه ، فقال : [ أيؤذيك هوامك ] ؟ قال نعم ، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية . خرجه البخاري والدارقطني . وقد مضى في " البقرة " {[14023]} .
الثالثة- قوله تعالى : " والهدي " والهَديُ والهَدِيّ لغتان . وقرئ " حتى يبلغ الهَدْيُ محله " [ البقرة : 196 ] بالتخفيف والتشديد ، الواحدة هدية . وقد مضى في " البقرة " {[14024]} أيضا . وهو معطوف على الكاف والميم من " صدوكم " . و " معكوفا " حال ، وموضع " أن " من قوله : " أن يبلغ محله " نصب على تقدير الحمل على " صدوكم " أي صدوكم وصدوا الهدي عن أن يبلغ . ويجوز أن يكون مفعولا له ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهية أن يبلغ محله . أبو علي : لا يصح حمله على العكف ، لأنا لا نعلم " عكف " جاء متعديا ، ومجيء " معكوفا " في الآية يجوز أن يكون محمولا على المعنى ، كأنه لما كان حبسا حمل المعنى على ذلك ، كما حمل الرفث على معنى الإفضاء فعدي بإلى ، فإن حمل على ذلك كان موضعه نصبا على قياس قول سيبويه ، وجرا على قياس قول الخليل . أو يكون مفعولا له ، كأنه قال : محبوسا كراهية أن يبلغ محله . ويجوز تقدير الجر في " أن " لأن عن تقدمت ، فكأنه قال : وصدوكم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي " عن " أن يبلغ محله . ومثله ما حكاه سيبويه عن يونس : مررت برجل إن زيد وإن عمرو ، فأضمر الجار لتقدم ذكره .
قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم } فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : " ولولا رجال مؤمنون " يعني المستضعفين من المؤمنين بمكة وسط الكفار ، كسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل ، وأشباههم . " لم تعلموهم " أي تعرفوهم . وقيل لم تعلموهم أنهم مؤمنون . " أن تطؤوهم " بالقتل والإيقاع بهم ، يقال : وطئت القوم ، أي أوقعت بهم . و " أن " يجوز أن يكون رفعا على البدل من رجال ، ونساء كأنه قال ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات . ويجوز أن يكون نصبا على البدل من الهاء والميم في " تعلموهم " ، فيكون التقدير : لم تعلموا وطأهم ، وهو في الوجهين بدل الاشتمال . " لم تعلموهم " نعت ل " رجال " و " نساء " . وجواب " لولا " محذوف ، والتقدير : ولو أن تطؤوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم لأذن الله لكم في دخول مكة ، ولسلطكم عليهم ، ولكنا صُنَّا من كان فيها يكتم إيمانه . وقال الضحاك : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أن تطؤوا آباءهم فتهلك أبناؤهم .
الثانية- قوله تعالى : " فتصيبكم منهم معرة " المعرة العيب ، وهي مفعلة من العر وهو الجرب ، أي يقول المشركون : قد قتلوا أهل دينهم . وقيل : المعنى يصيبكم من قتلهم ما يلزمكم من أجله كفارة قتل الخطأ ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدية في قوله : " فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " [ النساء : 92 ] قاله الكلبي ومقاتل وغيرهما . وقد مضى في " النساء " القول فيه{[14025]} . وقال ابن زيد : " معرة " إثم . وقال الجوهري وابن إسحاق : غرم الدية . قطرب : شدة . وقيل غم . الثالثة- قوله تعالى : " بغير علم " تفضيل للصحابة وإخبار عن صفتهم الكريمة من العفة عن المعصية والعصمة عن التعدي ، حتى لو أنهم أصابوا من ذلك أحدا لكان عن غير قصد . وهذا كما وصفت النملة عن جنه سليمان عليه السلام في قولها : " لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " {[14026]} [ النمل : 18 ] .
قوله تعالى : { ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا } فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : " ليدخل الله في رحمته من يشاء " اللام في " ليدخل " متعلقة بمحذوف ، أي لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته . ويجوز أن تتعلق بالإيمان . ولا تحمل على مؤمنين دون مؤمنات ولا على مؤمنات دون مؤمنين لأن الجميع يدخلون في الرحمة . وقيل : المعنى لم يأذن الله لكم في قتال المشركين ليسلم بعد الصلح من قضى أن يسلم من أهل مكة ، وكذلك كان أسلم الكثير منهم وحسن إسلامه ، ودخلوا في رحمته ، أي جنته .
الثانية- قوله تعالى : " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " أي تميزوا ، قاله القتبي . وقيل : لو تفرقوا ، قاله الكلبي . وقيل : لو زال المؤمنون من بين أظهر الكفار لعذب الكفار بالسيف ، قاله الضحاك . ولكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار . وقال علي رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا " فقال : [ هم المشركون من أجداد نبي الله ومن كان بعدهم وفي عصرهم كان في أصلابهم قوم مؤمنون فلو تزيل المؤمنون عن أصلاب الكافرين لعذب الله تعالى الكافرين عذابا أليما ] .
الثالثة- هذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن ، إذ لا يمكن أذية الكافر إلا بأذية المؤمن . قال أبو زيد قلت لابن القاسم : أرأيت لو أن قوما من المشركين في حصن من حصونهم ، حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم ، أيحرق هذا الحصن أم لا ؟ قال : سمعت مالكا وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم : أنرمي في مراكبهم بالنار ومعهم الأسارى في مراكبهم ؟ قال : فقال مالك لا أرى ذلك ، لقوله تعالى لأهل مكة : " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " . وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه . وإن فعل ذلك فاعل فأتلف أحدا من المسلمين فعليه الدية والكفارة . فإن لم يعلموا فلا دية ولا كفارة ، وذلك أنهم إذا علموا فليس لهم أن يرموا ، فإذا فعلوه صاروا قتلة خطأ والدية على عواقلهم . فإن لم يعلموا فلهم أن يرموا . وإذا أبيحوا الفعل لم يجز أن يبقى عليهم فيها تباعة . قال ابن العربي : وقد قال جماعة إن معناه لو تزيلوا عن بطون النساء وأصلاب الرجال . وهذا ضعيف ، لأن من في الصلب أو في البطن لا يوطأ ولا تصيب منه معرة . وهو سبحانه قد صرح فقال : " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم " وذلك لا ينطلق على من في بطن المرأة وصلب الرجال ، وإنما ينطلق على مثل الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل . وكذلك قال مالك : وقد حاصرنا مدينة الروم فحبس عنهم الماء ، فكانوا ينزلون الأسارى يستقون لهم الماء ، فلا يقدر أحد على رميهم بالنبل ، فيحصل لهم الماء بغير اختيارنا . وقد جوز أبو حنيفة وأصحابه والثوري الرمي في حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى من المسلمين وأطفالهم . ولو تترس كافر بولد مسلم رمي المشرك ، وإن أصيب أحد من المسلمين فلا دية فيه ولا كفارة . وقال الثوري : فيه الكفارة ولا دية . وقال الشافعي بقولنا . وهذا ظاهر ، فإن التوصل إلى المباح بالمحظور لا يجوز ، سيما بروح المسلم ، فلا قول إلا ما قاله مالك رضي الله عنه . والله أعلم .
الرابعة- قلت : قد يجوز قتل الترس ، ولا يكون فيه اختلاف إن شاء الله ، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية . فمعنى كونها ضرورية : أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس . ومعنى أنها كلية : أنها قاطعة لكل الأمة ، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين ، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة . ومعنى كونها قطعية : أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا . قال علماؤنا : وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها ، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا ، فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين . وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون . ولا يتأتى لعاقل أن يقول : لا يقتل الترس في هذه الصورة بوجه ، لأنه يلزم منه ذهاب الترس والإسلام والمسلمين ، لكن لما كانت هذه المصلحة غير خالية من المفسدة ، نفرت منها نفس من لم يمعن النظر فيها ، فإن تلك المفسدة بالنسبة إلى ما حصل منها عدم أو كالعدم . والله أعلم .
قراءة العامة " لو تزيلوا " إلا أبا حيوة فإنه قرأ " تزايلوا " وهو مثل " تزيلوا " في المعنى . والتزايل : التباين . و " تزيلوا " تفعلوا ، من زلت . وقيل : هي تفيعلوا . " لعذبنا الذين كفروا " قيل : اللام جواب لكلامين ، أحدهما : " لولا رجال " والثاني : " لو تزيلوا " . وقيل جواب " لولا " محذوف ، وقد تقدم . " ولو تزيلوا " ابتداء كلام .
ولما كان ما مضى من وصفهم على وجه يشمل غيرهم من جميع الكفار ، عينهم مبيناً لسبب كفهم عنهم مع استحقاقهم في ذلك الوقت للبوار والنكال والدمار فقال : { هم } أي أهل مكة ومن-{[60430]} لافهم { الذين كفروا } أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم { وصدوكم } زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه { عن المسجد الحرام } أي مكة ، ونفس المسجد الحرام ، والكعبة ، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة -{[60431]}{ والهدي } أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء ، ومنه أربعون ، وفي رواية : سبعون بدنة ، كان أهداها النبي صلى الله عليه وسلم { معكوفاً } أي حال كونه مجموعاً محبوساً مع رعيكم له وإصلاحه {[60432]}لما أهدى{[60433]} لأجله { أن يبلغ محله } أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره ، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه ، وهو في العمرة المروة ، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم ، فالموضع الذي نحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة عند الإحصار ليس محله المطلق .
ولما كان التقدير : فلولا ما أشار إليه من ربط المسببات بأسبابها لسلطكم عليهم فغلبتموهم على المسجد وأتممتم عمرتكم على ما أردتم ، ثم عطف عليه-{[60434]} أمراً أخص{[60435]} منه فقال : { ولولا رجال } أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة { مؤمنون } أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية { ونساء مؤمنات } أي-{[60436]} كذلك{[60437]} حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة ، على أن ذلك شامل لمن جبله الله على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركاً { لم تعلموهم } أي لم{[60438]} يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين {[60439]}لأنهم ليس{[60440]} لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب ، ثم أبدل من " الرجال والنساء " قوله : { أن تطؤهم } أي تؤذوهم بالقتل{[60441]} أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب منه قوله صلى الله عليه وسلم
" آخر وطأة وطئها الله بوج " يكون ذلك الأذى منكم لهم على ظن-{[60442]} أنهم مشركون أذى الدائس لمدوس وتضغطوهم{[60443]} وتأخذوهم أخذاً شديداً بقهر وغلبة تصيرون به لا تردون{[60444]} يد لامس ولا تقدرون على مدافعة { فتصيبكم } أي فيتسبب عن هذا الوطء أن يصيبكم { منهم } أي من جهتهم وبسببهم { معرة } أي مكروه وأذى هو كالحرب في انتشاره وأذاه ، وإثم وخيانة بقتال دون إذن خاص ، وبعدم الإمعان في البحث ، وغرم وكفارة ودية وتأسف وتعيير ممن لا علم له ، ثم علق بالوطء المسبب عنه إصابة المعرة إتماماً للمعنى قوله : { بغير علم } أي بأنهم{[60445]} من المؤمنين .
ولما دل السياق على أن جواب " لولا " {[60446]} محذوف تقديره : لسلطكم عليهم وما كف أيديكم عنهم ، ولكنه علم ذلك ، وعلم أنه سيؤمن ناس من المشركين فمن عليكم بأن رفع حرج إصابتهم بغير علم عنكم ، وسبب لكم أسباب الفتح الذي كان يتوقع بسبب تسليطكم{[60447]} عليهم بأمر سهل ، وكف أيديكم ولم يسلطكم عليه { ليدخل الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { في رحمته } أي إكرامه وإنعامه { من يشاء } من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام ، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه ، ولما كان ذلك{[60448]} ، أنتج قوله تعالى : { لو تزيلوا } أي تفرقوا فزال أحد الفريقين عن الآخر زوالاً{[60449]} عظيماً بحيث لا يختلط صنف بغيره فيؤمن وطء المؤمنين له بغير علم { لعذبنا } أي بأيديكم بتسليطنا أبو بمجرد أيدنا من غير واسطة { الذين كفروا } أي أوقعوا ستر الإيمان .
ولما كان هذا عاماً لجميع من اتصف بالكفر من أهل الأرض ، صرح بما دل عليه السياق فقال : { منهم } أي الفريقين وهم الصادون { عذاباً أليماً * } أي شديد الإيجاع بأيديكم أو من عندنا لنوصلكم إلى قصدكم من الاعتمار والظهر على الكفار ، ففيه اعتذار{[60450]} وتدريب على تأدب بعضهم مع بعض ، وفي الإشارة إلى بيان سر من أسرار منع الله تعالى لهم من التسليط{[60451]} عليهم حث للعبد{[60452]} على أن لا يتهم{[60453]} الله في قضائه فربما عسر عليه أمراً يظهر له أن السعادة كانت فيه وفي باطنه سم قاتل ، فيكون منع الله له منه رحمة في الباطن وإن كان نقمة في الظاهر ، فألزم التسليم مع الاجتهاد في الخير والحرص عليه والندم على{[60454]} فواته وإياك {[60455]}والاعتراض{[60456]} ، وفي الآية أيضاً أن-{[60457]} الله تعالى قد يدفع عن الكافر لأجل المؤمن .