ريب المنون : حوادث الدهر ومصائبه ، والمنون هو الدهر ، وقيل : هو الموت .
أمن المنون وريبها تتوجع *** والدَّهر ليس بمعتب من يجزع
تربّص بها ريب المنون لعلها تطلَّق يوما أو يموت حليلُها
30 { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } .
بل هم يقولون : هو شاعر ، نتربص به أحداث الدّهر ، من موت أو حادثة متلفة ، وكان كفار قريش قد اجتمعوا في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيما يقولونه فيه صلى الله عليه وسلم ، حتى قال قائل من بني عبد الدار : تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر وسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، ثم افترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية .
والخلاصة : اجتنبوا مقابلته حتى لا يغلبنا بشعره ، وانتظروا موته كما مات الشعراء من قبله .
وتارة { يَقُولُونَ } فيه : إنه { شَاعِرٌ } يقول الشعر ، والذي جاء به شعر ،
والله يقول : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }
{ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } أي : ننتظر به الموت{[881]} فسيبطل أمره ، [ ونستريح منه ] .
قوله تعالى : " أم يقولون شاعر " أي بل يقولون محمد شاعر . قال سيبويه : خوطب العباد بما جرى في كلامهم . قال أبو جعفر النحاس : وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبين ولا مشروح ، يريد سيبويه أن " أم " في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث ، كما قال{[14310]} :
فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال :
فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث ، والنحويون يمثلونها ببل . " نتربص به ريب المنون " قال قتادة : قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان . قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر ، أي يهلك عن قريب كما هلك من قبل من الشعراء ، وأن أباه مات شابا فربما يموت كما مات أبوه . وقال الأخفش : نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر ، كما تقول : قصدت زيدا وقصدت إلى زيد . والمنون : الموت في قول ابن عباس . قال أبو الغول الطهوي :
هم منعوا حِمَى الوَقَبَي بِضَرْبٍ *** يُؤَلِّفُ بينَ أشْتَاتِ المَنُونِ{[14311]}
أي المنايا ، يقول : إن الضرب يجمع بين قوم متفرقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة ، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة . وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : " ريب " في القرآن شك إلا مكانا واحدا في الطور " ريب المنون " يعني حوادث الأمور ، وقال الشاعر{[14312]} :
تَرَبَّصْ بِهَا ريبَ المنونِ لعلَّها *** تُطَلَّقُ يوماً أو يموت حليلُها
وقال مجاهد : " ريب المنون " حوادث الدهر ، والمنون هو الدهر ، قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبِه تتوجع *** والدهر ليس بِمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ
أأن رأت رَجُلاً أعشى أَضَرَّ به *** ريبُ المنونِ ودهرٌ مُتْبِلٌ خَبِل{[14313]}
قال الأصمعي : المنون والليل والنهار ، وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال . وعنه : أنه قيل للدهر منون ؛ لأنه يذهب بمنة الحيوان أي قوته وكذلك المنية . أبو عبيدة : قيل للدهر منون ، لأنه مضعف ، من قولهم حبل منين أي ضعيف ، والمنين الغبار الضعيف . قال الفراء : والمنون مؤنثة وتكون واحدا وجمعا . الأصمعي : المنون واحد لا جماعة له . الأخفش : هو جماعة لا واحد له ، والمنون يذكر ويؤنث ، فمن ذكره جعله الدهر أو الموت ، ومن أنثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية .
ولما كانت نسبته صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من هذا القرآن الآمر بالحكمة إلى أنه أتى به عن الجن الذين طبعهم الفساد مما{[61578]} لا ينبغي أن يتخيله{[61579]} أحد فضلاً أن يقوله له صلى الله عليه وسلم ، ولا يكاد يصدق أن أحداً يرميه به ، فكان في طيه سؤال{[61580]} تقريع وتوبيخ ، نبه على ذلك بالعطف على ما تقديره : أيقولون هذا القول البعيد من أقوال أهل العقول : { أم يقولون } ما هو أعجب في مجرد قوله فضلاً عن تكريره ، فأم معادلة للاستفهام قبلها لا مقطوعة ، وكذا جميع ما بعدها وهو معنى ما نقله البغوي{[61581]} عن الخليل أنه قال : ما في سورة الطور من ذكر " أم " كله استفهام وليس بعطف .
( شاعر } يقول{[61582]} كلاماً موزوناً بالقصد ، يلزمه التكلف لذلك فيغلب إلزام الوزن قائله حتى يجعل اللفظ{[61583]} هو الأصل ويجعل المعنى تابعاً له ، فيأتي كثير من كلامه ناقص المعاني هلهل النسج مغلوباً فيه على أمره معترفاً إذا وقف عليه بتقصيره متعذراً{[61584]} مما زانه به زعم من أوزانه ، وساق سبحانه هذا وكذا ما بعده من الأقسام على طريق الاستفهام مع أن نسبتها إليهم محققة ، تنبيهاً على أن مثل هذا لا يقوله عاقل ، وإن قاله أحد لم يكد الناقل عنه يصدق : { نتربص } أي ننتظر { به ريب المنون * } أي حوادث الدهر من الموت وغيره القاطعة ، من المن وهو القطع .