كذلك يعلمهم القرآن أدبا آخر في علاقتهم برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيبدو أنه كان هناك تزاحم على الخلوة برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحدثه كل فرد في شأن يخصه ؛ ويأخذ فيه توجيهه ورأيه ؛ أو ليستمتع بالانفراد به مع عدم التقدير لمهام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الجماعية ؛ وعدم الشعور بقيمة وقته ، وبجدية الخلوة به ، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال . فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مال الذي يريد أن يخلو برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويقتطع من وقته الذي هو من حق الجماعة . في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة :
( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة . ذلك خير لكم وأطهر . فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ) . .
وقد عمل بهذه الآية الإمام علي - كرم الله وجهه - فكان معه - كما روي عنه - دينار فصرفه دراهم . وكان كلما أراد خلوة برسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لأمر تصدق بدرهم ! ولكن الأمر شق على المسلمين . وعلم الله ذلك منهم . وكان الأمر قد أدى غايته ، وأشعرهم بقيمة الخلوة التي يطلبونها .
الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 12 ) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 13 ) }
ناجيتم الرسول : أردتم مناجاته والتحدث معه .
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة : قدموا قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم صدقة تضعونها بين يديه ليدفعها الفقراء ، وفي ذلك نفع للفقراء ، وتعظيم لقدر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحث على عدم الإفراط في الأسئلة ، وفيه تمييز بين المنافقين والمؤمنين ، فالمنافق محب للدنيا ضنين بالمال ، وبإخراج صدقة .
خير لكم وأطهر : أزكى للنفوس ، وأبعد عن الريبة وحب المال .
12- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
يا أيها الذين آمنوا ، إذا رغبتم في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والخلوة به للإجابة على أسئلتكم ، فقدموا صدقة قبل المناجاة ، يأخذها الرسول صلى الله عليه وسلم ويتصدق بها على الفقراء ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا صدقة " .
وكان من صفاته صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة أنه يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة ، وتقديم الصدقة بين يدي المناجاة فيه منفعة للفقراء ، وتعويد للأغنياء على الصدقة ، وتطهير للنفس من الشح ، وفيه استجماع قوى السائل ، فإذا كان السائل فقيرا لا يجد صدقة يقدمها فقد أسقط الله عنه ذلك التكليف ، وغفر له ورحمه ، وأباح له المناجاة بدون تقديم صدقة ، لقوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجبا ، لأن الأمر للوجوب ، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
فإن ذلك لا يقال إلا لترك الوجوب ، وقال بعضهم : إن الأمر هنا للندب والاستحباب .
والأول أظهر ، حيث نسخ الله وجوب تقديم صدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالآية التي تليها .
وأنكر أبو مسلم الأصفهاني وقوع النسخ ، وقرر أن الأمر بتقديم الصدقة على النجوى لتمييز المؤمن المخلص من المنافق ، فلما تحقق الغرض انتهى الحكم ، أي أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة فوجب انتهاؤه بانتهاء تلك الغاية ، فلا يكون هذا نسخا .
قال الإمام فخر الدين الرازي : وهذا الكلام حسن ما به بأس . 1ه .
أي أنه كان أمرا مرحليا مؤقتا ، مقصودا منه تخفيف الضغط على الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة الأسئلة والمناجاة ، ومعرفة المؤمن الذي يهون عليه المال في سبيل المناجاة من المنافق الذي يعظم المال ، فلما تحقق ذلك أسقط الله ذلك التكليف .
والمشهور عند الجمهور أن الأمر بتقديم الصدقة قبل المناجاة منسوخ بقوله تعالى : { أأشفقتم . . . }الآية .
ناجيتم الرسول : إذا أردتم الحديث معه .
فقدّموا بين يدي نجواكم صدقةً : فتصدقوا قبل المناجاة .
ولما أكثر المسلمون من التنافُس في القُرب من مجلس الرسول الكريم لسماعِ أحاديثه ، ولمناجاته في أمورِ الدين ، وشَقّوا في ذلك عليه ، أراد الله أن يخفّف عنه فأنزل قوله تعالى :
{ يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً . . . . } ، إذا أردتم مناجاةَ الرسول فتصدّقوا قبل مناجاتكم له ، ذلك خيرٌ لكم وأطهرُ لقلوبكم . فإن لم تجدوا ما تتصدّقون به فإن الله تعالى قد رخّص لكم في المناجاةِ بلا تقديم صدقة ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
الأولى- قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول }{ ناجيتم } ساررتم ، قال ابن عباس : نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلما قال ذلك كف كثير من الناس . ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها . وقال الحسن : نزلت بسب أن قوما من المسلمين كانوا يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه ، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى ، فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلافه . وقال زيد بن أسلم : نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنه أذن يسمع كل ما قيل له ، وكان لا يمنع أحدا مناجاته . فكان ذلك يشق على المسلمين ؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعا اجتمعت لقتاله . قال : فأنزل الله تبارك وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول }[ المجادلة : 9 ] الآية ، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية ، فانتهى أهل الباطل عن النجوى ؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، وشق ذلك على أهل الإيمان وامتنعوا من النجوى ، لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة فخفف الله عنهم بما بعد الآية .
الثانية- قال ابن العربي : وفي هذا الخبر عن زيد ما يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح ، فإن الله تعالى قال : { ذلك خير لكم وأطهر } ثم نسخه مع كونه خيرا وأطهر ، وهذا رد على المعتزلة عظيم في التزام المصالح ، لكن راوي الحديث عن زيد ابنه عبدالرحمن وقد ضعفه العلماء . والأمر في قوله تعالى : { ذلك خير لكم وأطهر } نص متواتر في الرد على المعتزلة . والله أعلم .
الثالثة- روى الترمذي عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة }[ سألته ]{[14793]} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما ترى دينارا ) قلت لا يطيقونه ، قال : ( فنصف دينار ) قلت : لا يطيقونه . قال : ( فكم ) قلت : شعيرة . قال : ( إنك لزهيد ) قال فنزلت :{ أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } [ المجادلة : 13 ] الآية . قال : فبي{[14794]} خفف الله عن هذه الأمة ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه ، ومعنى قوله : شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب . قال ابن العربي : وهذا يدل على مسألتين حسنتين أصوليتين : الأولى : نسخ العبادة قبل فعلها . والثانية : النظر في المقدرات بالقياس ، خلافا لأبي حنيفة .
قلت : الظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة . وقد روي عن مجاهد : أن أول من تصدق في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه وناجى النبي صلى الله عليه وسلم . روي أنه تصدق بخاتم . وذكر القشيري وغيره عن علي بن ابن طالب أنه قال : في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، وهي : { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بن يدي نجواكم صدقة } كان لي دينار فبعته ، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد ، فنسخت بالآية الأخرى { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات }[ المجادلة : 13 ] . وكذلك قال ابن عباس : نسخها الله بالآية التي بعدها . وقال ابن عمر : لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم : تزويجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى .
قوله تعالى : { ذلك خير لكم } أي من إمساكها { وأطهر }لقلوبكم من المعاصي { فإن لم تجدوا } يعني الفقراء { فإن الله غفور رحيم } .
ولما نهى عما يحزن من {[63360]}المقال والمقام{[63361]} ، وكان المنهي عنه من التناجي إنما هو لحفظ قلب الرسول صلى الله عليه وسلم عما يكدره فهو منصرف إلى مناجاتهم غيره ، وكان ذلك مفهماً أن مناجاتهم له صلى الله عليه وسلم لا حرج فيها ، وكان كثير منهم يناجيه ولا قصد له إلا الترفع بمناجاته فأكثروا في ذلك حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم ، وكان النافع للإنسان إنما هو كلام من يلائمه في الصفات ويشاكله في الأخلاق ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس من الدنيا تقذراً لها لأجل بغض الله لها ، أمر من أراد أن يناجيه بالتصدق ليكون ذلك{[63362]} أمارة على {[63363]}الاجتهاد {[63364]}في التخلق{[63365]} بأخلاقه الطاهرة من الصروف عن {[63366]}الدنيا والإقبال على الله ، ومظهراً له عما سلف من الإقبال عليها{[63367]} فإن الصدقة برهان على الصدق في الإيمان ، وليخفف عنه صلى الله عليه وسلم ما كانوا قد أكثروا عليه من المناجاة ، فلا يناجيه إلا من قد خلص{[63368]} إيمانه فيصدق ، فيكون ذلك مقدمة لانتفاعه بتلك المناجاة كما أن الهدية تكون مهيئة للقبول كما ورد " نعم الهدية أمام الحاجة{[63369]} " فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء { إذا ناجيتم } أي أردتم أن تناجوا { الرسول } صلى الله عليه وسلم أي الذي لا أكمل منه في الرسلية{[63370]} ، فهو أكمل الخلق ووظيفته تقتضي أن يكون منه الكلام بما أرسله به الملك وتكون هيبته مانعة من ابتدائه بالكلام ، فلا يكون من المبلغين إلا الفعل بالامتثال لا غير { فقدموا } أي بسبب هذه الإرادة العالية{[63371]} على سبيل الوجوب ومثل النجوى كشخص{[63372]} له يدان يحتاج أن يطهر نفسه ليتأهل للقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال{[63373]} : { بين يدي نجواكم } أي قبل سركم الذي تريدون أن ترتفعوا به { صدقة } تكون لكم{[63374]} برهاناً قاطعاً على إخلاصكم كما ورد أن الصدقة برهان ، فهي مصدقة لكم في دعوى الإيمان التي هي التصديق بالله تعالى ورسوله{[63375]} صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى ، ومعظمه الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، ولذلك{[63376]} استأنف{[63377]} قوله : { ذلك } أي الخلق العالي جداً من تقديم التصدق قبل المناجاة يا خير الخلق ، ولعله أفرده بالخطاب لأنه لا يعلم كل ما فيه من الأسرار غيره .
وعاد إلى الأول فقالك { خير لكم } أي في دينكم من الإمساك عن الصدقة { وأطهر } لأن الصدقة طهرة ونماء وزيادة في كل خير ، ولذلك{[63378]} سميت زكاة { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } والتعبير بأفعل لأنهم مطهرون قبله{[63379]} بالإيمان .
ولما أمر بذلك ، وكانت عادته أن لا يكلف بما فوق الوسع للتخفيف على عباده لا سيما هذه الأمة قال :{ فإن لم تجدوا } أي ما تقدمونه .
ولما كان المعنى الكافي في التخفيف : فليس عليكم شيء ، دل عليه بأحسن منه فقال :{ فإن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال ، وأكده لاستبعاد مثله فإن المعهود من الملك إذا ألزم رعيته{[63380]} بشيء أنه لا يسقطه{[63381]} أصلاً ورأساً ، ولا سيما إن كان يسيراً ، ودل على أنه سبحانه لن يكلف بما فوق الطاقة بقوله :{ غفور رحيم * } أي له صفتا{[63382]} الستر للمساوئ والإكرام بإظهار المحاسن ثابتتان{[63383]} على الدوام فهو يغفر ويرحم تارة بعدم العقاب للعاصي{[63384]} ، وتارة للتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف{[63385]} ، وهذه الآية قيل : إنها نسخت قبل العمل بها ، وقال علي رضي الله عنه{[63386]} : ما عمل بها أحد غيري ، أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيته عشر مرات أتصدق في كل مرة بدرهم ، ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس ، فنزلت الرخصة في ترك الصدقة ، " وروى النسائي في الكبرى والترمذي{[63387]} وقال : حسن غريب وابن حبان وأبو يعلى والبزار{[63388]} عن علي رضي الله عنه أنه قال : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مرهم أن يتصدقوا " . قلت : بكم يا رسول الله ؟ قال : " بدينار " ، قلت : لا يطيقون . قال : " فنصف دينار " ، قلت : لا يطيقون ، قال : " فبكم ؟ " قلت{[63389]} : بشعيرة : قال{[63390]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لزهيد " ، فأنزل الله تعالى { أأشفقتم } الآية . وكان علي رضي الله عنه يقول : بي خفف الله عن هذه الأمة . وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند{[63391]} المناجاة شيئاً أو أن لا{[63392]} يكون احتاج إلى المناجاة .