ولما كان المفهوم من ذلك الابتلاء فرض الخروج على الجميع ، فقد بين الله أصحاب الأعذار الحقيقية الذين يحق لهم التخلف عن الجهاد ، بلا حرج ولا عقاب :
ليس على الأعمى حرج ، ولا على الأعرج حرج ، ولا على المريض حرج . ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومن يتول يعذبه عذابا أليما . .
فالأعمى والأعرج معهما عذر دائم هو العجز المستمر عن تكاليف الخروج والجهاد . والمريض معه عذر موقوت بمرضه حتى يبرأ .
والأمر في حقيقته هو أمر الطاعة والعصيان . هو حالة نفسية لا أوضاع شكلية . فمن يطع الله ورسوله فالجنة جزاؤه . ومن يتول فالعذاب الأليم ينتظره . ولمن شاء أن يوازن بين مشقات الجهاد وجزائه ، وبين راحة القعود وما وراءه . . ثم يختار !
حرج : إثم في التخلف عن الجهاد ، وقتال الكفار .
17- { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } .
هؤلاء أصحاب الأعذار الذين يباح لهم التخلف عن الجهاد ، وهم الأعمى فاقد البصر ، والأعرج صاحب العرج البين المستمر ، والمريض .
والمرض نوعان : مرض دائم فيلحق بالأعمى والأعرج ، ومرض طارئ : يطرأ أياما ثم يزول ، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة ، حتى يبرأ ، فإذا برئ من المرض وأصبح سليما معافى ، وجب أن يشترك في الجهاد .
{ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما } .
من أطاع الله ورسوله في كل ما ذكر ، ولبى داعي الجهاد ، وآثر الآخرة على الفانية ، فله الجنة التي تجري الأنهار من تحتها ، وفيها النعيم الأبدي الدائم ، ومن أعرض عن طاعة الله ، وترك الجهاد وخالف أمر الله ، يعذبه عذابا بالغا ، بالذلة والصغار في الدنيا ، والنار في الآخرة .
ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي : في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع .
{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } في امتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، { وَمَنْ يَتَوَلَّ } عن طاعة الله ورسوله { يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } فالسعادة كلها في طاعة الله ، والشقاوة في معصيته ومخالفته .
قوله : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } الحرج معناه الإثم{[4260]} أي لا إثم على هؤلاء المذكورين في التخلف عن الجهاد لما بهم من أعذار أو زمانة تمنع من الكر والفر مما يقتضيه فن الحرب في ساحات القتال .
وفي الآية بيان لثلاثة أصناف من المعذورين وهم : الأعمى ، فإنه لا يستطيع مزاولة الجهاد أو الإقدام على العدو ولا يمكنه الاحتراز والحذر .
ثم الأعرج ، الذي يعجزه العرج عن مزاولة القتال وما يقتضيه ذلك من قدرة على الحركة والسعي وسرعة التنقل . أما إن كان عرجه هينا بسيطا لا يعجزه عن المجاهدة فلا يعذر في ترك الجهاد . وفي معنى الأعرج ، الأقطع وهو المقطوع اليد . وكذلك المقعد وهو أولى بالعذر .
ثم المريض الذي لا يستطيع الكر والفر وسرعة الحركة والتنقل ولا يقدر على ملاقاة العدو بالضرب والطعن ونحوهما لما به من مرض . أما إن كان مرضه هينا كالسعال أو الصداع الخفيف أو نحو ذلك مما لا يعجز صاحبه عن الجهاد فليس بمعذور .
قوله : { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } يرغب الله المؤمنين في قتال المشركين الظالمين الذين يجحدون آيات الله ، ويصدون الناس عن دين الإسلام . والمعنى : من يطع الله ورسوله في الدعوة إلى جهاد المشركين وإلى القتال في صفوف المؤمنين دفعا لشرور الظالمين وفتنتهم ، وابتغاء مرضاة الله وسعيا لإعلاء كلمة الإسلام ، أولئك يجزيهم ربهم خير الجزاء يوم القيامة حيث النعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار { ومن يتول يعذبه عذابا أليما } من يعرض عن طاعة الله ورسوله فيتخلف عن الجهاد مع المؤمنين فلسوف يبوء بعذاب الذل والخزي في الدنيا ، وبالعذاب الوجيع في الآخرة{[4261]} .