وأمام مشهد هذه الآيات الكونية ذات الأثر الشعوري العميق يجيء التنديد والتهديد لمن يلحدون في هذه الآيات الظاهرة الباهرة ؛ فيكفرون بها ، أو يغالطون فيها :
( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا . أفمن يلقى في النار خير ? أم من يأتي آمناً يوم القيامة . اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ) .
ويبدأ التهديد ملفوفاً ولكنه مخيف : ( لا يخفون علينا ) . . فهم مكشوفون لعلم الله . وهم مأخوذون بما يلحدون ، مهما غالطوا والتووا ، وحسبوا أنهم مفلتون من يد الله كما قد يفلتون بالمغالطة من حساب الناس .
ثم يصرح بالتهديد : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة ? . . وهو تعريض بهم ، وربما ينتظرهم من الإلقاء في النار والخوف والفزغ ، بالمقابلة إلى مجيء المؤمنين آمنين .
وتنتهي الآية بتهديد آخر ملفوف : ( اعملوا ما شئتم . إنه بما تعملون بصير ) . . ويا خوف من يترك ليعمل فيلحد في آيات الله . والله بما يعمل بصير .
{ إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير 40 إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز 41 لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم 43 ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى وأولئك ينادون من مكان بعيد 44 ولقد آيتنا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب 45 من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد 46* }
يلحدون في آياتنا : يميلون عن الحق فيها ، والإلحاد : الميل والعدول ، ومنه اللحد في القبر لأنه أميل إلى ناحية منه دون الأخرى .
لا يخفون علينا : نحن نراهم ، ونعد لهم الجزاء المناسب .
اعملوا ما شئتم : جملة للتهديد والوعيد ، أي : اكفروا وألحدوا واتبعوا أهواءكم فأنا مطلع محاسب ، وسوف ترون عقوبة عملكم .
40-{ إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } .
وقف الكفّار موقف المعارضة من القرآن والإسلام ، وقابلوا تلاوة القرآن بالصفير والتصفيق ، والقرآن هنا يتهددهم ويتوعدهم ، فهم تحت المجهر .
إنهم ملحدون يميلون بالقرآن عن ظاهره ، ويؤوِّلون القرآن تأويلا يناسب عقيدتهم الفاسدة ، وهم تحت عين الله وبصره معلومون ، وستكون عاقبتهم في جهنم ، وشتان بين كافر يلقى في النار مثل أبي جهل ، ومسلم يدخل الجنة مع الأمن والأمان ، مثل عمّار بن ياسر ، وأبيه وأمّه ، ذلك الرجل الذي اشتد به العذاب ، فقال كلمة أرضى بها كفار مكة ؛ فقال المؤمنون : صبأ عمار ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إن عمار ملئ إيمانا " {[651]} .
أخرج ابن المنذر ، عن بشير بن فتح قال : نزلت هذه الآية في أبي جهل وعمار بن ياسر : { أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة . . . }
ثم توعد القرآن وتهدد الملحدين الطاعنين في القرآن ، فقال : { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } .
أي : قاوموا القرآن ، أو افعلوا أي سبيل يروق لكم في معارضة القرآن ، فأنتم تحت سمعي وبصري ، وستلقون جزاءكم عندما تُردُّون إليّ ، وما أهول أن يكون العبد تحت سمع الله وبصره ، ثم هو يعارض القرآن ويصفّق ويصفّر عند تلاوته .
فكأن القرآن يقول : افعلوا ما بدا لكم ، فالله مطلع على أعمالكم وسيوفيكم جزاءكم .
الذين يلحِدون في آياتنا : ينحرفون عن القرآن الكريم .
إن الذين يميلون عن الحق ويُلحِدون في آياتنا نحن نعلمهم ولا يخفون عنا ، ولهم جزاء كبير عند الله عبّرت عنه آيةُ :
{ أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة ؟ } إنهم لا يستوون . وبعد ذلك هدّدهم الله وبين عاقبتهم بقوله { اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قوله تعالى : " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا " أي يميلون عن الحق في أدلتنا . والإلحاد : الميل والعدول . ومنه اللحد في القبر ؛ لأنه أميل إلى ناحية منه . يقال : ألحد في دين الله أي حاد عنه وعدل . ولحد لغة فيه . وهذا يرجع إلى الذين قالوا : " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " وهم الذين ألحدوا في آياته ومالوا عن الحق فقالوا : ليس القرآن من عند الله ، أو هو شعر أو سحر ، فالآيات آيات القرآن . قال مجاهد : " يلحدون في آياتنا " أي عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية واللغو والغناء . وقال ابن عباس : هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه . وقال قتادة : " يلحدون في آياتنا " يكذبون في آياتنا . وقال السدي : يعاندون ويشاقون . وقال ابن زيد : يشركون ويكذبون . والمعنى متقارب . وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل . وقيل : الآيات المعجزات ، وهو يرجع إلى الأول فإن القرآن معجز . " أفمن يلقى في النار " على وجهه وهو أبو جهل في قول ابن عباس وغيره . " خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة " قيل : النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل . وقيل : عمار بن ياسر . وقيل : حمزة . وقيل : عمر بن الخطاب . وقيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي . وقيل : المؤمنون . وقيل : إنها على العموم ، فالذي يلقى في النار الكافر ، والذي يأتي آمنا يوم القيامة المؤمن ، قاله ابن بحر . " اعملوا ما شئتم " أمر تهديد ؛ أي بعد ما علمتم أنهما لا يستويان فلا بد لكم من الجزاء . " إنه بما تعملون بصير " وعيد بتهديد وتوعد .
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 40 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ( 41 ) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ( 42 ) مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } .
{ يُلْحِدُونَ } يميلون إلى الحق ، من الإلحاد وهو الميل والعدول ، ومنه اللحد في القبر وهو الحفر في شق ، وألحدَ في دين الله أي أحاد عنه وعدل ، ويراد بالملحد المنحرف عن الحق إلى الباطل . {[4065]} وذلك تهديد من الله للمشركين الذين يميلون عن الإيمان بالله ورسوله ويجتنبون عقيدة التوحيد الخالص وُحادُّون الله ورسوله والمؤمنين ويتمالئون على كتاب الله بالتشكيك والتكذيب والتشويش ؛ أولئك يتوعدهم الله بقوله : { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } الله يعلمهم ، ويعلم كيدهم ومكرهم ؛ إذْ لا يخفى منم أحد على الله الذي لا يخفى عليه شيء ، وهو لهم بالمرصاد ، ثم أخبر تعالى عما هو فاعل بهم مما تهددهم به من سوء العذاب فقال : { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } استفهام تقرير ينبِّهُ الله به إلى أن الجاحدين المكذبين الذي يكيدون لدين الله ولكتابه الحكيم صائرون إلى النار ؛ إذ يلقون فيها على وجوههم لينالوا فيها العذاب الأليم ، وذلك بخلاف المؤمنين المخبتين الذين استسلموا لأمر الله واخلصوا له الطاعة والعبادة فإنهم يأتون يوم القيامة آمنين مطمئنين فلا يمسهم العذاب ولا هم يحزنون .
على أن المراد بذلك العموم ، فالآية تعم سائر المكذبين الجاحدين الذين يُلْحِدُون في آيات الله بالتكذيب والصدِّ والإعراض ، وكذلك تعم سائر المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله والتزموا شرع الله ومنهجه العظيم وهو الإسلام .
قوله : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } وهذا وعيد آخر لهؤلاء المكذبين الذين يُشاقّون الله ورسوله والمؤمنين ؛ أي اعملوا ما شئتم من سوء الأعمال التي تُفْضِي بكم إلى النار { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .