ثم يكشف عن سخف ذلك التصور وتهافته :
( لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء . سبحانه ! هو الله الواحد القهار ) .
وهو فرض جدلي لتصحيح التصور . فالله لو أراد أن يتخذ ولداً لاختار ما يشاء من بين خلقه ؛ فإرادته مطلقة غير مقيده . ولكنه - سبحانه - نزه نفسه عن اتخاذ الولد . فليس لأحد أن ينسب إليه ولداً ، وهذه إرادته ، وهذه مشيئته ، وهذا تقديره ؛ وهذا تنزيهه لذاته عن الولد والشريك :
( سبحانه ! هو الله الواحد القهار ) . .
وما اتخاذه الولد ? وهو مبدع كل شيء ؛ وخالق كل شيء ، ومدبر كل شيء ? وكل شيء وكل أحد ملكه يفعل به ما يشاء :
سبحانه : تنزيها له عن الولد والشريك .
القهار : الشديد القهر ، يغلب ولا يُغلب .
4- { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لأصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار } .
لقد جعلوا لله ولدا ، وجعلوا الملائكة بنات الله ، وادعوا أنه سبحانه تزوج من سراة الجن فأنجبوا له الملائكة ، واتخذوا تماثيل الكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين الذين مضوا ، وتوجهوا بالعبادة إلى هذه المخلوقات ، وهي عاجزة عن جلب الخير لنفسها ، أو دفع الضرّ عنها ، فكيف تحقق ذلك لغيرها ، والآية تقول لهؤلاء المشركين : سنسلم جدلا أن الله أراد أن يتخذ ولدا ، فكان الأوفق أن يختار الأفضل وهو الذكر لا الأنثى ، والأمر كما ترى استدراج لهم إلى التفكير السليم ، فالله كامل كمالا مطلقا ، وقديم قدما مطلقا ، والولد صنو أبيه ، والولد لا يكون إلا حادثا ، ومن هنا استحالة الوالدية عليه .
أي : لو أراد اتخاذ ولد ، لاتخذه ابنا ذكرا على سبيل تقدير المستحيل .
{ سبحانه هو الله الواحد القهار } .
تنزه الله تنزها مطلقا عن أن يتخذ ولدا ، أو شريكا في الألوهية ، لأن الولد مخلوق لله ، والمخلوق لا يسمى ولدا لخالقه ، ولا يصلح لذلك ، فضلا عن أن يكون شريكا له ، فهو سبحانه واحد أحد فرد صمد ، قادر مقتدر ، قهر الكون والكلّ بملكوته وجبروته وقدرته ، فهو غني عن الشرك والنظير والمثيل ، منزّه عن الولد والوالد .
وقد روى البخاري في صحيحه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : يكذّبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني ، ويشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ، فأما تكذيبه لي فقوله : ليس يعيدني كما بدأني ، وأما شتمه لي فقوله إن لي ولدا " {[584]} .
والآيات تؤكد ما سبق في القرآن الكريم ، من تقرير الألوهية والوحدانية ، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبطلان الشرك ، والتنديد بالشرك والمشركين .
{ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } : أي : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } كما زعم ذلك من زعمه ، من سفهاء الخلق . { لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : لاصطفى بعض مخلوقاته التي يشاء اصطفاءه ، واختصه لنفسه ، وجعله بمنزلة الولد ، ولم يكن حاجة إلى اتخاذ الصاحبة . { سُبْحَانَهُ } عما ظنه به الكافرون ، أو نسبه إليه الملحدون .
{ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } أي : الواحد في ذاته ، وفي أسمائه ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، فلا شبيه له في شيء من ذلك ، ولا مماثل ، فلو كان له ولد ، لاقتضى أن يكون شبيها له في وحدته ، لأنه بعضه ، وجزء منه .
القهار لجميع العالم العلوي والسفلي ، فلو كان له ولد لم يكن مقهورا ، ولكان له إدلال على أبيه ومناسبة منه .
ووحدته تعالى وقهره متلازمان ، فالواحد لا يكون إلا قهارا ، والقهار لا يكون إلا واحدا ، وذلك ينفي الشركة له من كل وجه .
لما أخبر سبحانه بالحكم بينهم ، فكان ذلك مع تضمنه التهديد وافياً بنفي الشريك ، كافياً في ذلك لأن المحكوم فيه لا يجوز أن يكون قسيماً للحاكم ، فلم يبق في شيء من ذلك شبهة إلا عند ادعاء الولدية ، قال نافياً لها على سبيل الاستئناف جواباً لمن يقول : فما حال من يتولى الولد ؟ - قال القشيري : والمحال يذكر على جهة الإبعاد أن لو كان كيف حكمه - : { لو أراد الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال { أن يتخذ } أي يتكلف كما هو دأبكم ، ولا يسوغ في عقل أن الإله يكون متكلفاً { ولداً } أي كما زعم من زعم ذلك ، ولما كان الولد لا يراد إلا أن يكون خياراً ، وكان الله قادراً على كل شيء ، عدل عن أن يقول { لاتخذ } إلى قوله : { لاصطفى } أي اختار على سبيل التبني { مما يخلق } أي يبدعه في أسرع من الطرف ، وعبر بالأداة التي أكثر استعمالها فيما لا يعقل إشارة إلى أنه قادر على جعل أقل الأشياء أجلّها على سبيل التكرار والاستمرار - كما أشار إليه التعبير بالمضارع فقال : { ما يشاء } أي مما يقوم مقام الولد فإنه لا يحتاج إلى التطوير في إتيان الولد إلا من لا يقدر على الإبداع بغير ذلك .
ولما كان لا يرضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء ، لكنه لم يرد ذلك فلم يكن ، فهذا أقصى ما يمكن أن يجوز في العقل أن يخلق خلقاً شريفاً ويسميه ولداً إشارة إلى شدة إكرامه له وتشريفه إياه ، أو يقربه غاية التقريب كما فعل بالملائكة وعيسى عليهم السلام ، فكان ذلك سبباً لغلطكم فيهم حتى دعيتم أنهم أولاد ثم زعمتم أنهم بنات ، فكنتم كاذبين من جهتين ، هذا غاية الإمكان ، وأما أنه يجوز عليه التوليد فلا ، بل هو مما يحيله العقل ، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج ، والإله لا يتصور في عقل أن يكون محتاجاً أصلاً ، قال ابن برجان ما معناه : كان معهود الولادة على وجهين ، فولد منسوب إلى والده بنوة وولادة ورحماً ، فهذا ليس له في الوجود العلي وجود ، ولا في الإمكان تمكن ، ولا في الفعل مساغ بوجه من الوجوه ، وولد بمعنى التبني والاتخاذ ، وقد كانت العرب وغيرها من الأمم يفعلونه حتى نسخة القرآن ، فلا يبعد أن تكون هذه العبارة كانت جائزة في الكتب قبلنا ، فلما أعضل بهم الداء وألحدوا في ذلك عن سواء القصد الذي هو الاصطفاء إلى بنوة الولادة أضلهم الله وأعمى أبصارهم وسد السبيل عن العبادة عن ذلك ، وكشف معنى الاصطفاء ، وأظهر معنى الولاية ، ونسخ ذلك بهذا ، لأن هذا لا يداخله لبس ، وذلك كله لبيان كمال هذه الأمة وعلوها في كل أمر .
ولما كانت نسبة الولد إليه كنسبة الشريك أو أشنع ، وانتفى الأمران بما تقدم من الدليل باالحكم باعترافهم بأن حكمه سبحانه نافذ في كل شيء لشهادة الوجود ، ولقيام الأدلة على عدم الحاجة إلى شيء أصلاً فضلاً عن الولد ، نزه نفسه بما يليق بجلاله من التنزيه في هذا المقام ، فقال : { سبحانه } أي له التنزيه التام عن كل نقيصة ، ثم أقام الدليل على هذا التنزيه المقتضي لتفرده فقال : { هو } أي الفاعل لهذا الفعال ، والقائل لهذه الأقوال ، ظاهراً وباطناً { الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال ، ثم ذكر من الأوصاف ما هو كالعلة لذلك فقال : { الواحد } أي الذي لا ينقسم أصلاً ، ولا يكون له مثل فلا يكون له صاحبة ولا ولد ، لأنه لو كان شيء من ذلك لما كان لا مجانساً ولا جنس له ولا شبه بوجه من الوجوه { القهار * } أي الذي له هذه الصفة ، فكل شيء تحت قهره آلهتهم وغيرها على سبيل التكرار والاستمرار ، فصح من غير شك أنه لا يحتاج إلى شيء أصلاً ، وجُعل ما لا حاجة إليه ولا داعي يبعث عليه عبث ينزه عنه العاقل فكيف من له الكمال كله .