في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية . فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها . إذ أنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين .

وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني . فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين . كما تشهد بذلك قصة المعراج . . حيث وقف جبريل - عليه السلام - عند مقام ، وارتفع محمد بن عبد الله - الإنسان - إلى المقام الأسنى .

بينما هذا الإنسان مهيأ - حين ينتكس - لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط : ( ثم رددناه أسفل سافلين ) . . حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم ، لاستقامتها على فطرتها ، وإلهامها تسبيح ربها ، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى . بينما هو المخلوق في أحسن تقويم ، يجحد ربه ، ويرتكس مع هواه ، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه .

( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) . . فطرة واستعدادا . . ( ثم رددناه أسفل سافلين ) . . حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه ، وبينه له ، وتركه ليختار أحد النجدين .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

المفردات :

رددناه : رددنا الكافر ، أو جنس الإنسان .

أسفل سافلين : إلى النار ، أو الهرم وأرذل العمر .

التفسير :

5- ثم رددناه أسفل سافلين .

أي : لقد خلقنا الإنسان في أفضل خلقة ، حسيا ومعنويا ، لكنه لم يشكر هذه النعمة ، ولم يفطن لهذا الفضل ، فرأيناه يكفر بفضل الله عليه ، فيسجد للأصنام ، ويؤثر هواه ، ويسير وراء نزواته ، ويفضّل اللهو والخمر والكفر ، ومعاداة الرسل ، فيستحق أن يكون من أهل النار ، وأن يكون في أقبح خلقة ، وأسفل درجة ، بكفره وعناده ، ثم بدخوله جهنم وبئس المصير .

وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى كالآتي .

خلقنا الإنسان في أفضل خلقة ، وينتقل من الضعف إلى القوة والرشد وبلوغ الأشد ، ثم يعود إلى أسفل سافلين ببلوغه مرحلة الكبر والضعف ، فيعود ضعيف القوة ، ضعيف الذاكرة ، وربما وصل إلى مرحلة ضياع الذاكرة وخرف العقل ، أو تغضّن الوجه واهتزاز اليد وقلة الحيلة .

وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من أن يرد إلى أرذل العمر ، واختار جمع من المفسرين الرأي الأول ، لأنه يرتبط بما قبله وبما بعده .

أي أن الله خلق الإنسان في أكمل صورة ، لكن الكافر هوى بنفسه إلى مرحلة البهائم ، أو أضل سبيلا ، باختيار الكفر على الإيمان ، والضلال على الهدى .

قال ابن كثير :

ثم رددناه أسفل سافلين .

أي إلى النار ، قال ذلك مجاهد والحسن وأبو العالية وابن زيد ، أي : بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار ، إن لم يطع الله ويتبع الرسل ، ولهذا قال بعد ذلك : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . . .

وقال بعضهم :

ثم رددناه أسفل سافلين .

أي : إلى أرذل العمرi . واختار ذلك ابن جرير الطبري .

ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ، لأن الهرم قد يصيب بعضهم ، وإنما المراد ما ذكرناه ، كقوله تعالى : والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتii وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر . ( العصر : 1-3 ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

ومع هذه النعم العظيمة ، التي ينبغي منه القيام بشكرها ، فأكثر الخلق منحرفون عن شكر المنعم ، مشتغلون باللهو واللعب ، قد رضوا لأنفسهم بأسافل الأمور ، وسفساف الأخلاق ، فردهم الله في أسفل سافلين ، أي : أسفل النار ، موضع العصاة المتمردين على ربهم ،

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

الثانية- قوله تعالى : " ثم رددناه أسفل سافلين " أي إلى أرذل العمر ، وهو الهرم بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، حتى يصير كالصبي في الحال الأول . قاله الضحاك والكلبي وغيرهما . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد : " ثم رددناه أسفل سافلين " إلى النار ، يعني الكافر . وقال أبو العالية : وقيل : لما وصفه اللّه بتلك الصفات الجليلة التي ركب الإنسان عليها ، طغى وعلا ، حتى قال : " أنا ربكم الأعلى " {[16190]} [ النازعات : 24 ] وحين علم اللّه هذا من عبده ، وقضاؤه صادر من عنده ، رده أسفل سافلين ، بأن جعله مملوءا قذرا ، مشحونا نجاسة ، وأخرجها على ظاهره إخراجا منكرا ، على وجه الاختيار تارة ، وعلى وجه الغلبة أخرى ، حتى إذا شاهد ذلك من أمره ، رجع إل قدره . وقرأ عبد الله " أسفل السافلين " . وقال : " أسفل سافلين " على الجمع ؛ لأن الإنسان في معنى جمع ، ولو قال : أسفل سافل جاز ؛ لأن لفظ الإنسان واحد . وتقول : هذا أفضل قائم . ولا تقول أفضل قائمين ؛ لأنك تضمر لواحد ، فإن كان الواحد غير مضمر له ، رجع اسمه بالتوحيد والجمع ، كقوله تعالى : " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " {[16191]} [ الزمر : 33 ] . وقوله تعالى : " وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة " {[16192]} [ الشورى : 48 ] . وقد قيل : إن معنى " رددناه أسفل سافلين " أي رددناه إلي الضلال ، كما قال تعالى : " إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي إلا هؤلاء ، فلا يردون إلى ذلك . والاستثناء على قول من قال " أسفل سافلين " النار ، متصل . ومن قال : إنه الهرم فهو منقطع .


[16190]:آية 24 سورة النازعات.
[16191]:آية 33 سورة الزمر.
[16192]:آية 48 سورة الشورى.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ} (5)

ولما كان الإنسان مع هذه المحاسن قد سلط الله سبحانه وتعالى عليه شهوات وهيأ طبعه لرذائل وأخلاق دنيئات ، وأهوية وحظوظ للأنفس مميلات ، وكان أكثر الخلق بها هالكاً لتتبين قدرة الله سبحانه وتعالى ، لم يستثن ؛ بل حكم على الجنس كله بها كما حكم عليه بالتقويم ، فقال تعالى دالاً بأداة التراخي على أن اعوجاجه بعد ذلك العقل الرصين والذهن الصافي المستنير في غاية البعد لولا القدرة الباهرة والقوة القاسرة القاهرة : { ثم رددناه } أي بما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل ، فعطل منافع ما خلقناه له فضيع نفسه وفوّت أساب سعادته ونكسناه نحن في خلقه ، فصار بالأمرين في خلقه وخلقه نفساً ، وهوى أو أعم من ذلك بالنكس . { أسفل سافلين * } أي إلى ما تحت رتبة الجمادات المستقذرات ، فصار يعمل الأعمال السيئات المقتضية بعد حسن الجمع لغاية الشتات ، أما رده في خلقه فبأن سلطنا عليه الشهوات التي ركبناها في النفوس ، وجعلناها داعية إلى كل بؤس ، فغلبت على عقله فأعمته حتى أوردته الموارد ، وأوقعته في المهاوي والمعاطب ، حتى أنه ليركب كثيراً من أموره وهو قاطع بأنه باطل شنيع ، لا يقدم على مثله عاقل ، فصار يعبد من دون الله ما هو دون البشر ؛ بل ومطلق الحيوان مما لا ضر فيه ولا نفع ، وصار يركب الظلم والعدوان والإفك والبهتان ، وما لا يحصى بالعد من أنواع الفواحش والعصيان ، ويظلم أبناء جنسه وغيرهم ، ويجتهد في الفجور ، ويتصرف بما لا يشك هو في أنه لا يقره عليه من له أدنى نظر ممن يلزمه أمره ويعنيه شأنه ، فصار بذلك أحط رتبة من البهائم ؛ بل من أدنى الحشرات المستقذرات ؛ لأنها وإن كانت لها شهوات إلا أنها ليس لها عقل تغطيه بها وتطمس نوره بظلامها ، فلا تنسب إلى أنها فوّتت شيئاً لعدم تكليفها لعدم العقل الموجب للشرف ، وأما هو فاستعمل ما خلقناه له من الآلات ، وما فضلناه به من الكمالات ، في غير ما خلقناه له فاستحق العذاب المهين ، ثم يموت من غير مجازاة على شيء من ذلك أو على كثير منه ، فلا بد في الحكمة حينئذ من بعثه ، وله بعد البعث عند ربه على ذلك عذاب مقيم ، وأما في خلقه فبالهرم حتى صار بعد تلك القوى ضعيفاً ، وبعد ذلك العز ذليلاً مهيناً ، وبعد ذلك العلم الغزير والفكر المنير لا يعلم شيئاً ، وصار يستقذره وينكره من كان يألفه ويستعطره ، وقال ابن برجان : أما رده في طريق الديانة فبالكفر والتكذيب ، وأما فيما سبيله الجزاء فبالمسخ في دار البرزخ ، وتحويل صورته إلى ما غلب عليه خلقته وعمله في الدنيا من الدواب والهوام والبهائم ، وفي الآخرة تزرق عيناه ويشوه خلقه ، وقال الإمام أبو العباس الأقليشي في شرح " المقدم المؤخر " من شرحه للأسماء الحسنى : إن الله تعالى خلقه - أي الإنسان - أولاً في أحسن تقويم ، ثم ركبه في هذا الجسم الذي يجذبه إلى أسفل سافلين ، فإن قدم عقله على هواه صعد إلى أعلى عليين ، وكان من المقربين المقدمين ، وإن قدم هواه هبط إلى إدراك الجحيم ، وكان من المبعدين المؤخرين .