في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (44)

37

ثم يذكرهم بنعمة الله عليهم أن جعل هذا القرآن عربياً بلسانهم ؛ كما يشير إلى طريقتهم في العنت والإلحاد والجدل والتحريف :

( ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا : لولا فصلت آياته ! أأعجمي وعربي ? ) . .

فهم لا يصغون إليه عربياً ، وهم يخافون منه لأنه عربي يخاطب فطرة العرب بلسانهم . فيقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . ولو جعله الله قرآنا أعجمياً لاعترضوا عليه أيضاً ، وقالوا لولا جاء عربياً فصيحاً مفصلاً دقيقاً ! ولو جعل بعضه أعجمياً وبعضه عربياً لاعترضوا كذلك وقالوا أأعجمي وعربي ? ! فهو المراء والجدل والإلحاد .

والحقيقة التي تخلص من وراء هذا الجدل حول الشكل ، هي أن هذا الكتاب هدى للمؤمنين وشفاء ، فقلوب المؤمنين هي التي تدرك طبيعته وحقيقته ، فتهتدي به وتشتفي . فأما الذين لا يؤمنون فقلوبهم مطموسة لا تخالطها بشاشة هذا الكتاب ، فهو وقر في آذانهم ، وعمى ً في قلوبهم . وهم لا يتبينون شيئاً . لأنهم بعيدون جداً عن طبيعة هذا الكتاب وهواتفه :

( قل : هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ً ، أولئك ينادون من مكان بعيد ) . .

ويجد الإنسان مصداق هذا القول في كل زمان وفي كل بيئة . فناس يفعل هذا القرآن في نفوسهم فينشئها إنشاء ، ويحييها إحياء ؛ ويصنع بها ومنها العظائم في ذاتها وفيما حولها . وناس يثقل هذا القرآن على آذانهم وعلى قلوبهم ، ولا يزيدهم إلا صمماً وعمى . وما تغير القرآن . ولكن تغيرت القلوب . وصدق الله العظيم .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (44)

المفردات :

أعجميا : بلغة العجم .

لولا فصلت آياته : هلا بُينت بلسان نفقهه .

أأعجمي وعربي : أيصح أن يأتينا كتاب أعجمي والمخاطب به عربي ، والعرب يقولون عمن يخالف لغتهم : أعجمي .

في آذانهم وقر : صم فلا يسمعونه .

وهو عليهم عمى : فلا يبصرون هداه .

أولئك ينادون من مكان بعيد : هؤلاء كأنما ينادون من مكان بعيد فلا يسمعون لبعده ، فاختلف فيه بالتصديق والتكذيب .

التفسير :

44-{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى وأولئك ينادون من مكان بعيد } .

دخل القرآن على المشركين من كل باب ، وحاكمهم إلى الحسّ ، وقص عليهم القصص ، ولفت أنظارهم إلى الكون وجماله ، وشخّص القيامة وأهوالها كأنها حاضرة أمامهم ، ومع ذلك قالوا : { قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . . . } ( فصلت : 5 ) . فنحن لا نفقه القرآن ولا نسمع إليه ، ولا ننظر في أدلته .

وهنا يقول لهم القرآن : لو كان القرآن بلغة العجم – أي : ليس بلغة العرب – لقلتم : هلا فُسّرت آياته ، ووُضّحت كلماته بلغة عربية ، أيجوز أن ينزل قرآن أعجمي على رسول عربي ، والمرسل إليهم عرب ؟

والمقصود : لو كان أعجميا لجاز أن تقولوا : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . . . } ( فصلت : 5 ) ، أما والقرآن عربي مبين ، فالحجاب سببه انشغال قلوبكم بالدنيا ، وإعراضكم عن الهدى ، وانصرافكم عن الرسالة النافعة .

{ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء . . . } .

قل للمؤمنين مصدر هداية لأنفسهم ، وشفاء لأسقامهم ، حيث يأخذ بأيديهم إلى الإيمان ويزيدهم إيمانا إلى إيمانهم ، ويقينا بالله إلى يقينهم ، ويعلمهم ما ينفعهم ، ويزيدهم علما ومعرفة .

{ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى . . . } .

أما الكافر الذي أصمّ أذنه عن سماع آيات الله ، فهو لذلك لا يسمع ، وإذا سمع لا ينصت ، وإذا أنصت ظاهرا انصرف بقلبه باطنا ، فكأنه سمع بأذنه ولم يهتد بقلبه ، لقد عميت قلوبهم عن هداية القرآن ، لذلك لم تبصر عيونهم جمال أسلوبه ، ولا فصاحة كلماته ، ولا رونقه وبيانه وهدايته ، كأنّ القرآن يناديهم من مكان بعيد ، لا يسمعونه ولا يفقهونه ولا يتبينون مراده .

قال القرطبي :

قوله تعالى : { أولئك ينادون من مكان بعيد } .

يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل ، وحكى اهل اللغة أنه يقال للذي يفهم : أنت تسمع من قريب ، ويقال للذي لا يفهم : أنت تنادَى من بعيد ، أي كأنه ينادَى بعيد منه ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه .

وقال الضحاك :

ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم ، من مكان بعيد ، فيكون ذلك أشدّ لتوبيخهم وفضيحتهم . ا ه .

ومن يتدبّر هذه الآية الكريمة يشاهد مصداقها في كل زمان ومكان ، فهناك من ينتفع بهذا القرآن قراءة وسماعا وتطبيقا ، وهناك من يستمع إلى هذا القرآن فلا يزيده السماع إلا إعراضا وبعدا وصمما وتشاغلا .

قال تعالى : { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } . ( التوبة : 125 ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (44)

{ 44 } { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }

يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، حيث أنزل كتابا عربيًا ، على الرسول العربي ، بلسان قومه ، ليبين لهم ، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به ، والتلقي له والتسليم ، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا ، بلغة غير العرب ، لاعترض ، المكذبون وقالوا : { لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : هلا بينت آياته ، ووضحت وفسرت . { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : كيف يكون محمد عربيًا ، والكتاب أعجمي ؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى كل أمر ، يكون فيه شبهة لأهل الباطل ، عن كتابه ، ووصفه بكل وصف ، يوجب لهم الانقياد ، ولكن المؤمنون الموفقون ، انتفعوا به ، وارتفعوا ، وغيرهم بالعكس من أحوالهم .

ولهذا قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي : يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم ، ويعلمهم من العلوم النافعة ، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية ، والأسقام القلبية ، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ، ويحث على التوبة النصوح ، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب .

{ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : صمم عن استماعه وإعراض ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يبصرون به رشدًا ، ولا يهتدون به ، ولا يزيدهم إلا ضلالاً فإنهم إذا ردوا الحق ، ازدادوا عمى إلى عماهم ، وغيًّا إلى غيَّهم .

{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : ينادون إلى الإيمان ، ويدعون إليه ، فلا يستجيبون ، بمنزلة الذي ينادي ، وهو في مكان بعيد ، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا . والمقصود : أن الذين لا يؤمنون بالقرآن ، لا ينتفعون بهداه ، ولا يبصرون بنوره ، ولا يستفيدون منه خيرًا ، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى ، بإعراضهم وكفرهم .

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (44)

{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا } لا بلسان العرب { لقالوا لولا فصلت } بينت { آياته } بلغتنا حتى نعرفها { أأعجمي وعربي } أي القرآن أعجمي ونبي عربي { قل هو } أي القرآن { للذين آمنوا هدى } من الضلالة { وشفاء } من الجهل { والذين لا يؤمنون } في ترك قبوله بمنزلة من { في آذانهم وقر وهو } أي القرآن { عليهم }

45 49 ذو { عمي } لأنهم لا يفقهونه { أولئك ينادون من مكان بعيد } أي كأنهم لقلة استماعهم وانتفاعهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعونه لبعد المسافة

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (44)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " ولو جعلناه قرآنا أعجميا " أي بلغة غير العرب " لقالوا لولا فصلت آياته " أي بينت بلغتنا فإننا عرب لا نفهم الأعجمية . فبين أنه أنزل بلسانهم ليتقرر به معنى الإعجاز ؛ إذ هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا . وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله ، ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان .

الثانية- وإذا ثبت هذا ففيه دليل على أن القرآن عربي ، وأنه نزل بلغة العرب ، وأنه ليس أعجميا ، وأنه إذا نقل عنها إلى غيرها لم يكن قرآنا .

الثالثة- قوله تعالى : " أأعجمي وعربي " وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي " اَاَعجمي وعربي " بهمزتين مخففتين ، والعجمي الذي ليس من العرب كان فصيحا أو غير فصيح ، والأعجمي الذي لا يفصح كان من العرب أو من العجم ، فالأعجم ضد الفصيح وهو الذي لا يبين كلامه . ويقال للحيوان غير الناطق أعجم ، ومنه ( صلاة النهار عجماء ) أي لا يجهر فيها بالقراءة فكانت النسبة إلى الأعجم آكد ، لأن الرجل العجمي الذي ليس من العرب قد يكون فصيحا بالعربية ، والعربي قد يكون غير فصيح ، فالنسبة إلى الأعجمي آكد في البيان . والمعنى أقرآن أعجمي ، ونبي عربي ؟ وهو استفهام إنكار . وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم والمغيرة وهشام عن ابن عامر " أعجمي " بهمزة واحدة على الخبر . والمعنى " لولا فصلت آياته " فكان منها عربي يفهمه العرب ، وأعجمي يفهمه العجم . وروى سعيد بن جبير قال : قالت قريش : لولا أنزل القرآن أعجميا وعربيا فيكون بعض آياته عجميا وبعض آياته عربيا فنزلت الآية . وأنزل في القرآن من كل لغة فمنه " السجيل " وهي فارسية وأصلها : سنك كيل ، أي طين وحجر ، ومنه " الفردوس " رومية وكذلك " القسطاس " وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وابن ذكوان وحفص على الاستفهام ، إلا أنهم لينوا الهمزة على أصولهم . والقراءة الصحيحة قراءة الاستفهام . والله أعلم .

قوله تعالى : " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " أعلم الله أن القرآن هدى وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع . " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر " أي صمم عن سماع القرآن . ولهذا تواصوا باللغو فيه . ونظير هذه الآية : " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " [ الإسراء : 82 ] وقد مضى مستوفى{[13448]} . وقراءة العامة " عمى " على المصدر . وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص ومعاوية وسليمان بن قتة " وهو عليهم عم " بكسر الميم أي لا يتبين لهم . واختار أبو عبيد القراءة الأولى ؛ لإجماع الناس فيها ؛ ولقوله أولا : " هدى وشفاء " ولو كان هاد وشاف لكان الكسر في " عمى " أجود ؛ ليكون نعتا مثلهما . تقديره : " والذين لا يؤمنون " في ترك قبوله بمنزلة من في آذانهم " وقر " . " وهو عليهم عمى " يعني القرآن " عليهم " ذو عمى ، لأنهم لا يفقهون فحذف المضاف . وقيل المعنى والوقر عليهم عمى . " أولئك ينادون من مكان بعيد " يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل . وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي يفهم : أنت تسمع من قريب . ويقال للذي لا يفهم : أنت تنادى من بعيد . أي كأنه ينادى من موضع بعيد منه فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه . وقال الضحاك : " ينادون " يوم القيامة بأقبح أسمائهم " من مكان بعيد " فيكون ذلك أشد لتوبيخهم وفضيحتهم . وقيل : أي من لم يتدبر القرآن صار كالأعمى الأصم ، فهو ينادى من مكان بعيد فينقطع صوت المنادي عنه وهو لم يسمع . وقال علي رضي الله عنه ومجاهد : أي بعيد من قلوبهم . وفي التفسير : كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون . وحكى معناه النقاش .


[13448]:راجع ج 10 ص 315 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (44)

{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته } الأعجمي الذي لا يفصح ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من العجم والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح ، ونزلت الآية بسبب طعن قريش في القرآن ، فالمعنى : أنه لو كان أعجميا لطعنوا فيه وقالوا هلا كان مبينا فظهر أنهم يطعنون فيه على أي : وجه كان .

{ أأعجمي وعربي } هذا من تمام كلامهم والهمزة للإنكار ، والمعنى : أنه لو كان القرآن أعجميا لقالوا : قرآن أعجمي ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وقيل : إنما طعنوا فيه لما فيه من الكلمات العجمية ، كسجين وإستبرق فقالوا : قرآن أعجمي وعربي أي : مختلط من كلام العرب والعجم ، وهذا يجري على قراءة أعجمي بفتح العين .

{ في آذانهم وقر } عبارة عن إعراضهم عن القرآن فكأنهم صم لا يسمعون وكذلك { وهو عليهم عمى } عبارة عن قلة فهمهم له .

{ أولئك ينادون من مكان بعيد } فيه قولان :

أحدهما : عبارة عن قلة فهمهم فشبههم بمن ينادي من مكان بعيد فهو لا يسمع الصوت ولا يفقه ما يقال .

والثاني : أنه حقيقة في يوم القيامة ، أي : ينادون من مكان بعيد ليسمعوا أهل الموقف توبيخهم ، والأول أليق بالكنايات التي قبلها .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا أَعۡجَمِيّٗا لَّقَالُواْ لَوۡلَا فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥٓۖ ءَا۬عۡجَمِيّٞ وَعَرَبِيّٞۗ قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَـٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ} (44)

ولما افتتحت السورة بأنه أنزل على أحسن الوجوه وأجملها وأعلاها وأبينها وأكملها من التفصيل ، والجمع والبيان بهذا اللسان العظيم الشأن ، فقالوا فيه ما وقعت هذه التسلية لأجله من قولهم { فلوبنا في أكنة } إلى آخره ، وكان ربما قال قائل ؛ لو كان بلسان غير العرب ، وأعطى هذا النبي فهمه والقدرة وعلى تبيينه لكان أقوى في الإعجاز وأجدر بالاتباع ، أخبر أن الأمر ليس كذلك ، لأنهم لم يقولوا : هذا الشك حصل لهم في أمره ، بل عناداً ، والمعاند لا يرده شيء ، فقال على سبيل التأكيد ، معلماً بأن الأمر على غير ما ظنه هذا الظان ، وقال الأصبهاني : إنه جواب عن قولهم { وقالوا قلوبنا في أكنه } . والأحسن عندي أن يكون عطفاً على { فصلت آياته قرآناً عربياً } وبناه للمفعول لأنه بلسانهم فلم يحتج إلى تعيين المفصل ، فيكون التقدير : فقد جعلناه عربياً معجزاً ، وهم أهل العلم باللسان ، فأعرضوا عنه وقالوا فيه ما تقدم ، ولفت القول عن وصف الإحسان الذي اقتضى أن يكون عربياً إلى مظهر العظمة الذي هو محط إظهار الاقتدار وإنفاذ الكلمة { ولو جعلناه } أي هذا الذكر بما لنا من العظمة والقدرة { قرآناً } أي على ما هو عليه من الجمع { أعجمياً } أي لا يفصح وهو مع ذلك على وجه يناسب عظمتنا ليشهد كل أحد أنه معجز للعجم كما أن هذا معجز للعرب وأعطيناك فهمه والقدرة على إفهامهم إياه { لقالوا } أي هؤلاء المتعنتون فيه كما يقولون في هذا بغياً وتعنتاً : { لولا } أي هلا ولم لا { فصلت آياته } أي بينت على طريقة نفهمها بلا كلفة ولا مبين ، حال كونه قرآناً عربياً كما قدمنا أول السورة .

ولما تبين بشاهد الوجود أنهم قالوا في العربي الصرف وبشهادة الحكيم الودود ، وأنهم يقولون في الأعجمي الصرف ، لم يبق إلا المختلط منهما المنقسم إليهما ، فقال مستأنفاً منكراً عليهم للعلم بأن ذلك منهم مجرد لدد لا طلباً للوقوف على سبيل الرشد : { أعجمي } أي أمطلوبكم أو مطلوبنا - على قراءة الخبر من غير استفهام - أعجمي { وعربي } مفصل باللسانين ، والأعجمي كما قاله الرازي في اللوامع : الذي لا يفصح ولو كان عربياً والعجمي من العجم ولو تفاصح بالعربية .

ولما كان من الجائز أن يقولوا : نعم ، ذلك مطلوبنا ، وكان نزولاً من الرتبة العليا إلى ما دونها مع أنه لا يجيب إلى المقترحات إلا مريد للعذاب ، او عاجز عن إنفاذ ما نريد ، بين أن مراده نافذ من غير هذا فقال : { قل هو } أي هذا القرآن على ما هو عليه من العلو الذي لا يمكن أن يكون شيء يناظره { للذين آمنوا } أي أردنا وقوع الإيمان منهم { هدى } بيان لكل مطلوب { وشفاء } لما في صدروهم من داء الكفر والهواء والإفك فآذانهم به سميعة ، وقلوبهم له واعية ، وهو لهم بصائر ، قال القشيري ، فهو شفاء للعلماء حيث استراحوا عن كد الفكرة وتحير الخواطر وشفاء لضيق صدور المريدين بما فيه من التنعيم بقراءته والتلذذ بالتفكر فيه ، ولقلوب المحبين من لواعج الاشتياق بما فيه من لطائف المواعيد ، ولقلوب العارفين بما يتوالى عليها من أنوار التحقيق وآثار خطاب الرب العزيز { والذين لا يؤمنون } أي أردنا أنه لا يتجدد منهم إيمان { في آذانهم وقر } أي ثقل مذهب للسمع مصم ، فهم لذلك لا يسمعون سماعاً ينفعهم لأنهم بادروا إلى رده أول ما سمعوه وتكبروا عليه فصاروا لا يقدرون على تأمله فهزهم الكسل وأصمهم الفشل فعز عليهم فهمه { وهو عليهم } أي خاصة { عمى } مستعلٍ على أبصارهم وبصائرهم لازم لهم ، فهم لا يعونه حق الوعي ، ولا يبصرون الداعي به حق الإبصار ، فلهم به ضلال وداء ، فلذلك قالوا { ومن بيننا وبينك حجاب } وذلك لما يحصل لهم من الشبه التي هيئت قلوبهم لقبولها ، أو يتمادى بهم في الأوهام التي لا يألفون سوى فروعها وأصولها ، فقد بان لأن سبب الوقر في آذانهم الحكم بعدم إيمانهم للحكم بإشقائهم ، فالآية من الاحتباك : ذكر الهدى والشفاء اولاً دليلاً على الضلال والداء ثانياً ، والوقر والعمى ثانياً دليلاً على السمع والبصائر أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر أمدح صفات المؤمنين وأذم صفات الكافرين ، لأنه لا أحقر من أصم أعمى .

ولما بان بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال : { أولئك } أي البعداء البغضاء مثالهم مثال من { ينادون } أي يناديهم من يريد نداءهم غير الله { من مكان بعيد * } فهم بحيث لا يتأتى سماعهم ، وأما الأولون فهم ينادون بما هيئوا له من القبول من مكان قريب ، فهذه هي القدرة الباهرة ، وذلك أن شيئاً واحداً يكون لناس في غاية القرب ولناس معهم في مكانهم في أنهى البعد .