ولمسة أخرى بحقيقة أخرى . حقيقة فردية التبعة ، والجزاء الفردي الذي لا يغني فيه احد عن أحد شيئاً . فما بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] من حاجة الى هدايتهم يحققها لنفسه ، فهو محاسب على عمله وحده ، كما أن كلاً منهم محاسب على ما كسبت يداه ، يحمل حمله وحده ، لا يعينه أحد عليه . ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه ، وهو الكاسب وحده لا سواه ؛ والأمر كله صائر إلى الله :
( ولا تزر وازرة وزر أخرى . وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) . . .
( ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ، وإلى الله المصير ) . .
وحقيقة فردية التبعة والجزاء ذات أثر حاسم في الشعور الأخلاقي ، وفي السلوك العملي سواء . فشعور كل فرد بأنه مجزيُّ بعمله ، لا يؤاخذ بكسب غيره ، ولا يتخلص هو من كسبه ، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل ان تحاسب ! مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء ، أو أن يحمل عنه أحد شيئاً . كما أنه - في الوقت ذاته - عامل مطمئن ، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة الجماعة ، فيطيش وييئس من جدوى عمله الفردي الطيب . ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة ومحاولة ردها عن الضلال بما يملك من وسيلة .
إن الله - سبحانه - لا يحاسب الناس جملة بالقائمة ! إنما يحاسبهم فرداً فرداً ؛ كل على عمله ، وفي حدود واجبه . ومن واجب الفرد أن ينصح وأن يحاول الإصلاح غاية جهده . فإذا قام بقسطه هذا فلا عليه من السوء في الجماعة التي يعيش فيها ، فإنما هو محاسب على إحسانه . كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح . فالله لا يحاسب عباده بالقائمة كما أسلفنا !
والتعبير القرآني يصور هذه الحقيقة على طريقة التصوير في القرآن ، فتكون أعمق وأشد أثراً . يصور كل نفس حاملة حملها . فلا تحمل نفس حمل آخرى وحين تثقل نفس بما تحمل ثم تدعو أقرب الأقرباء ليحمل عنها شيئاً ، فلن تجد من يلبي دعاءها ويرفع عنها شيئاً مما يثقلها !
إنه مشهد القافلة كل من فيها يحمل أثقاله ويمضي في طريقه ، حتى يقف أمام الميزان والوزّان ! وهي في وقفتها يبدو على من فيها الجهد والإعياء ، واهتمام كل بحمله وثقله ، وانشغاله عن البعداء والأقرباء !
وعلى مشهد القافلة المجهدة المثقلة ، يلتفت إلى رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] :
( إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب واقاموا الصلاة ) . .
فهؤلاء هم الذين يفلح فيهم الإنذار . هؤلاء الذين يخشون ربهم ولم يشاهدوه . ويقيمون الصلاة ليتصلوا بربهم ويعبدوه . هؤلاء هم الذين ينتفعون بك ، ويستجيبون لك . فلا عليك ممن لا يخشى الله ولا يقيم الصلاة .
ومن تزكى فأنما يتزكى لنفسه . .
لا لك . ولا لغيرك . إنما هو يتطهر لينتفع بطهره . والتطهر معنى لطيف شفاف . يشمل القلب وخوالجه ومشاعره ، ويشمل السلوك واتجاهاته وآثاره . وهو معنى موح رفاف .
وهو المحاسب ، والمجازي ، فلا يذهب عمل صالح ، ولا يفلت عمل سيىء . ولا يوكل الحكم والجزاء إلى غيره ممن يميلون أو ينسون أو يهملون . .
{ ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير }
الوزر : الإثم والثقل أي : لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى بل كل وازرة تحمل وزرها وحدها .
مثقلة : نفس أثقلها الإثم حتى لم تقدر على الحركة .
لا يحمل منه شيء : لا تجد من سيستجيب لها ، ويحمل عنها بعض ذنبها حتى لو دعت ابنها أو أباها أو أمها فضلا عن غيرهم .
بالغيب : لأنهم لم يروه بأعينهم .
ومن تزكى : طهر نفسه من الشرك والمعاصي .
فإنما يتزكى لنفسه : فإن ثمرة صلاحه تعود إليه .
روى أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم ، فنزلت هذه الآية : ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذه الآية من مفاخر الإسلام لتحقيق مبدأ المسؤولية الشخصية في الدنيا والآخرة فلا يسأل إنسان عن جريمة غيره ولا يتحمل امرؤ عقوبة جان آخر .
ولا تحمل نفس مثقلة بالذنوب ذنب نفس أخرى كل امرئ بما كسب رهين . ( الطور : 21 ) .
فعدالة الله تأبى أن يعذب إنسان بذنوب آخر وفي القرآن الكريم على لسان يوسف الصديق : قال معاذ الله أن تأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون . ( يوسف : 79 ) .
وفي يوم القيامة يعظم الهول ويتشوف كل إنسان إلى النجاة بنفسه من هذا اليوم العصيب حتى يذهل الإنسان عن أقاربه وعن فلذة كبده ، ويفر من اقرب الناس إليه لشدة انشغاله بالنجاة من النار .
{ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } وإن طلبت نفس مثقلة بالأوزار والذنوب مساعدة من نفس أخرى لتحمل عنها أي ذنب من ذنوبها لم تلق أي استجابة ولم تجد من يحمل عنها بعض ذنوبها ولو كانت قريبة لها في النسب كالأب والابن والزوجة ، لأن كل إنسان مشغول بنفسه وحاله وله من الهموم ما يغنيه .
قال تعالى : يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه *لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . . ( عبس : 34-37 ) .
وقال تعالى : يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . . ( لقمان : 33 ) .
إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة ، فيقول : يا بني أي والد كنت لك ؟ فيثني خيرا فيقول : يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة ، من حسناتك أنجو بها مما ترى ، فيقول له ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل ما تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ثم يتعلق بزوجته فيقول : يا فلانة ، أو يا هذه أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيرا فيقول لها : إني أطلب حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها مما ترين فتقول له : ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا إني أتخوف مثل الذي تتخوف فذلك قوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها منه شيء ولو كان ذا قربى . . .
وقال الفضيل بن عياض : هي المرأة تلقى ولدها فتقول يا ولدي : ألم يكن بطني لك وعاء ؟ الم يكن ثديي لك سقاء ؟ ألم يكن حجري لك وطاء ؟ فيقول : بلى يا أماه فتقول يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنبا واحدا فيقول : إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول .
{ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة . . . }
أي : إنما يتعظ بما جئت به أيها الرسول أولو البصيرة والعقل الذين يخشون الله في خلواتهم أو يخافون من عذاب ربهم قبل معاينته ، و قد حافظوا على إقامة الصلاة في أوقاتها كاملة الأركان في خشوع وخضوع ومناجاة لله رب العالمين .
{ ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه . . . . } ومن تطهر من الذنوب والمعاصي وأطاع الله بصنوف الطاعات واستجاب لدعوة الرسول الأمين ولوحي الله رب العالمين فإنما يتطهر لنفسه وفائدة الطهارة والسمو الروحي والسلوك الأمثل يعود نفعها على فاعلها .
قال ابن كثير : ومن عمل صالحا فإنما يعود على نفسه .
{ وإلى الله المصير . . . } أي : وإليه المرجع والمآب وهو سريع الحساب وسيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
ويدل على المعنى الأخير ، ما ذكره بعده في قوله : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : في يوم القيامة كل أحد يجازى بعمله ، ولا يحمل أحد ذنب أحد . { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نفس مثقلة بالخطايا والذنوب ، تستغيث بمن يحمل عنها بعض أوزارها { لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فإنه لا يحمل عن قريب ، فليست حال الآخرة بمنزلة حال الدنيا ، يساعد الحميم حميمه ، والصديق صديقه ، بل يوم القيامة ، يتمنى العبد أن يكون له حق على أحد ، ولو على والديه وأقاربه .
{ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } أي : هؤلاء الذين يقبلون النذارة وينتفعون بها ، أهل الخشية للّه بالغيب ، أي : الذين يخشونه في حال السر والعلانية ، والمشهد والمغيب ، وأهل إقامة الصلاة ، بحدودها وشروطها وأركانها وواجباتها وخشوعها ، لأن الخشية للّه تستدعي من العبد العمل بما يخشى من تضييعه العقاب ، والهرب مما يخشى من ارتكابه العذاب ، والصلاة تدعو إلى الخير ، وتنهى عن الفحشاء والمنكر .
{ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } أي : ومن زكى نفسه بالتنقِّي من العيوب ، كالرياء والكبر ، والكذب والغش ، والمكر والخداع والنفاق ، ونحو ذلك من الأخلاق الرذيلة ، وتحلَّى بالأخلاق الجميلة ، من الصدق ، والإخلاص ، والتواضع ، ولين الجانب ، والنصح للعباد ، وسلامة الصدر من الحقد والحسد وغيرهما من مساوئ الأخلاق ، فإن تزكيته يعود نفعها إليه ، ويصل مقصودها إليه ، ليس يضيع من عمله شيء .
{ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } فيجازي الخلائق على ما أسلفوه ، ويحاسبهم على ما قدموه وعملوه ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .