( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) . . والتقابل واضح في العبارة . إنما تستوقفنا كلمة( سارب )وهي تكاد بظلها تعطي عكس معناها ، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء . والسارب : الذاهب . فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء . هذه النعومة في جرس اللفظ وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو . جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار . فاختار اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء !
القول في تأويل قوله تعالى : { سَوَآءٌ مّنْكُمْ مّنْ أَسَرّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالْلّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنّهَارِ } .
يقول تعالى ذكره : معتدلٌ عند الله منكم أيها الناس الذي أسر القول ، والذي جهر به ، والذي هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ في ظلمته بمعصية الله وَسارِبٌ بالنهارِ يقول : وظاهر بالنهار في ضوئه ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، سواء عنده سرّ خلقه وعلانيتهم ، لأنه لا يستسرّ عنده شيء ولا يخفى يقال منه : سَرَب يَسْرُبُ سُروبا إذا ظهر ، كما قال قيس بن الخطيم :
أنّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوبِ *** وتَقُرّبُ الأحْلامِم غيرُ قَرِيبِ
يقول : كيف سربت بالليل على بعد هذا الطريق ولم تكوني تبرزين وتظهرين . وكان بعضهم يقول : هو السالك في سِرْبه : أي في مذهبه ومكانه .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في السرب ، فقال بعضهم : هو آمن في سَربه ، بفتح السين ، وقال بعضهم : هو آمن في سِربه بكسر السين .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَر القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ وَسارِبٌ بالنّهارِ يقول : هو صاحب رِيبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَسارِبٌ بالنّهارِ : ظاهر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن أب رجاء ، في قوله : سَوَاءٌ مِنكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ وَسارِبٌ بالنّهارِ قال : إن الله أعلم بهم ، سواء من أسرّ القول ومن جهر به ، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عليّ بن عاصم ، عن عوف ، عن أبي رجاء : سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ وَسارِبٌ بالنّهارِ قال : من هو مستخف في بيته ، وساربٌ بالنهار : ذاهب على وجهه علمُه فيهم واحد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ يقول : السرّ والجهر عنده سواء . وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ وَسارِبٌ بالنّهارِ أما المستخفي ففي بيته ، وأما السارب : الخارج بالنهار حيثما كان المستخفي غيبه الذي يغيب فيه والخارج عنده سواء .
قال : حدثنا الحِمّانِيّ ، قال : حدثنا شريك ، عن خَصِيف ، في قوله : مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ قال : راكب رأسه في المعاصي . وَسارِبٌ بالنّهارِ قال : ظاهر بالنهار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ كلّ ذلك عنده تبارك وتعالى سواء السرّ عنده علانية . قوله : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْلِ وَسارِبٌ بالنّهارِ : أي في ظلمه الليل ، وسارب : أي ظاهر بالنهار .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن خَصِيف ، عن مجاهد وعكرمة : وَسارِبٌ بالنّهارِ قال : ظاهر بالنهار .
و«من » في قوله : مَنْ أسَرّ القَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيلِ رفع الأولى منهنّ بقوله سواء ، والثانية معطوفة على الأولى والثالثة على الثانية .
موقع هذه الجملة استئناف بياني لأنّ مضمونها بمنزلة النّتيجة لعموم علم الله تعالى بالخفيات والظواهر . وعدل عن الغيبة المتبعة في الضمائر فيما تقدم إلى الخطاب هنا في قوله : { سواء منكم } لأنه تعليم يصلح للمؤمنين والكافرين .
وفيها تعريض بالتهديد للمشركين المتآمرين على النبي صلى الله عليه وسلم .
و { سواء } اسم بمعنى مستو . وإنما يقع معناه بين شيئين فصاعداً . واستعمل سواء في الكلام ملازماً حالة واحدة فيقال : هما سواء وهم سواء ، قال تعالى : { فأنتم فيه سواء } . وموقع سواء هنا موقع المبتدأ . و { من أسر القول } فاعل سدّ مسدّ الخبر ، ويجوز جعل { سواء } خبراً مقدّماً و { من أسر } مبتدأ مؤخّراً و { منكم } حال { من أسر } .
والاستخفاء : هنا الخفاء ، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل استجاب .
والسارب : اسم فاعل من سرب إذا ذهب في السّرْب بفتح السين وسكون الراء وهو الطريق . وهذا من الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة . وذكر الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء ، وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهوراً . والمعنى : أن هذين الصنفين سواء لدى علم الله تعالى .
والواو التي عطفت أسماء الموصول على الموصول الأول للتقسيم فهي بمعنى { أو } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.