كثيرا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر,المتحرج أن أشوبها بتعبيري البشري الفاني!
وهذه السورة كلها- شأنها شأن سورة الأنعام من قبلها- من بين هذه النصوص التي لاأكاد أجرؤ على مسها بتفسير أو إيضاح.
ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآنمع الكثير من الإيضاح لطبيعته ولمنهجه ولموضوعه كذلك ووجهته. بعد ما ابتعد الناس عن الجو الذي تنزل فيه القرأن. وعن الاهتمتمت والأهداف التي لها, وبعد ما اندلعت وذبلت في حسهم وتصورهم مدلولاتها وأبعادها الحقيقية, وبعدما انحرفت في حسهم مصطلحاتها عن معانيها..وهم يعيشون في جاهلية كالتي نزل القرآن ليواجهها, بينما هم لا يتحركون بهذا القرىن في مواجهة الجاهليةكما كان الذين تنزل عليهم أول مرة يتحركون.. وبدون هذه الحركة لم يعد الناس يدركون من أسرار هذا القرأن شيئا. ولا يعلم مدلولاته إلا إنسان يؤمن به ويتحرك به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلوله ووجهته.
ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصديت للترجمة عن هذا القرآن!
إن إيقاع هذا القرآن المباشر في حسي محال أن أترجمه في ألفاظي وتعبيراتي.ومن ثم أحس دائما بالفجوة الخائلة بين ما أستشعره منه وما أترجمه للناس في هذ >!
وإنني لأدرك الآن-بعمق-حقيقة الفارق بين جيلنا الذي نعيش فيه والجيل الذي تيقى مباشرة هذا القرآن.
لقد كانوا يخاطبون بهذا القرآن مباشرة؛ ويتلقون إيقاعه في حسهم , وصوره وظلاله, وإيحاءاته وإيماءاته, وينفعلون بها انفعالا مباشرا, ويستجيبون لها استجابة مباشرة. وهم يتحركون به في وجه الجاهلية لتحقيق مدلولاته في تصورهم. ومن تم كانوا يحققون في حياة البشر القصيرة تلك الخوارق التي حققوها, بالانقلاب المطلق الذي تم في قلوبهم ومشاعرهم وحياتهم, ثم بالانقلاب الآخر الذي حققوه في الحياة من حولهم, وفي أقدار العالم كله يومذاك, وفي خط سير التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد كانوا ينهلون مباشرة من معين هذا القرآن بلا وساطة. ويتأثرون بإيقاعه في حسهم فمالأذن. ينضحون بحرارته وإشعاعه وإيحائه. ويتكيفون بعد ذلك وفق حقائقه وقيمه وتصوراته.
أما نحن اليوم فنتكيف وفق تصورات فلان و فلان عن الكون والحياة والقيم والأوضاع. وفلان وفلان من البشر القاصرين أبناء الفناء!
ثم ننظر نحن إلى ما حققوه في حياتهم من خوارق في ذات أنفسهم وفي الحياة من حولهم, فنحاول تفسيرها وتعليلها بمنطقنا الذي يستمد معاييره من قيم وتصورات ومؤثرات غير قيمه وتصوراتهم ومؤثراتهم.فنخطئ ولا شك في تقدير بواعث وتعليل الدوافع وتفسير النتائج لأنهم هم خلق آخر من صنع هذا القرآن..
وإنني لأهيب بقراء هذه الظلال, ألا تكون هي هدفهم من الكتاب. إن ما يقر}ونها ليدينوا من القرآن ذاته. ثم ليتناولوه عند ذلك في حقيقته, ويطرح عنهم هذه الظلال.وهم لن بتناولوه في حقيقته إلا إذ وقفوا حياتهم كلها على تحقيق مدلولاته وعلى خوض معركة مع الجاهليةباسمه وتحت رايته.
و بعد فهذا الاستطراد اندفعت وأمامي هذه السورة-سورة الرعد-كأنما أقرها لأول مرة, وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه؛ ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما تفتح له نفسك؛ ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة, ولم تقرأه أو تسمعه أو تعالجه من قبله!
وهذه السورة من أعاجيب السور القرأنية التي تأخذ في نفس الواحد وإيقاع واحد, وجو واحد وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها ؛ والتي تفعم النفس, وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج, والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا, فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات؛ والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا, وهو مستيقظ, مبصر, مدرك, شاعر بما يكموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست ألفاظا وعبارات, إنما هي مطارق و إيقاعات: صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها. لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك!
إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية كلها على وجه التقريب- هو العقيدة وقضاياها.. هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة جميعا؛ ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث... وما إليها.
ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة, لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في تلك السور المكية وفي غيرها من السور المدنية فهو في مرة يعرض بطريقة جديدة؛ وفي ضوء جديد؛ ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد!
إن هذه القضايا لا تعرض عرضا جدليا باردا يقال بكلمات ةينتهي كأية قضية ذهنية بارد إنما تعرض وحولها إطار, هو هذا الكون كله بكل ما فيه من عجائب هي براهين هذه القضايا وآياتها في الإدراك البشري البصير المفتوح. وهذه العجائب لا تنفد؛ لا تبلى جدتها لأنها تنكشف كل يوم عن جديد يصل إليه الإدراك, وما كشف منها من قبل يبدو جديدا في ضوء الجديد الذي يكشف ! ومن تم تبقى تلك القضايا حية في مهرجان العجائب الكونية التي تنفد ولا تبلى جدتها! وهذه السورة تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق؛ وتعرض عليه الكون كله في مجالاته الأخاذة: في السموات اللمرفوعة بغير عمد وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. وفي الليل يغشاه النهار. وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواسي نابتة وأنهار جارية وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان, ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى بماء واحد. وفي البرق يخيف ويطمع, والرعد يسبح ويحمد, والملائكة تخاف وتخشع, والصواعق يصيب بها من يشاء, والسحاب الثقال, والمطر في الوديان, والزبد الذي يذهب جفاء ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.
وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه: تلاحقها بعلم لله النافذ الكاشف الشامل , يلم بشارد والوارد ,والمستخفي والسارب, ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطروالخوالج.
تبدأ السورة بقضية عامة من قضايا العقيدة:قضية الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه. وتلك هي قاعدة بقية القضايا من توحيد لله، ومن إيمان بالبعث، ومن عمل صالح في الحياة. فكلها متفرعة عن الإيمان بأن الآمر بهذا هو الله، وأن هذا القرآن وحي من عنده سبحانه إلى رسوله [ص].
(المر. تلك آيات الكتاب. والذي أنزل إليك من ربك الحق. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)..
ألف. لام. ميم. را.. (تلك آيات الكتاب).. آيات هذا القرآن. أو تلك آيات على الكتاب تدل على الوحي به من عند الله. إذ كانت صياغته من مادة هذه الأحرف دلالة على أنه من وحي الله، لا من عمل مخلوق كائنا من كان.
(والذي أنزل إليك من ربك الحق)..
الحق وحده. الحق الخالص الذي لا يتلبس بالباطل. والذي لا يحتمل الشك والتردد. وتلك الأحرف آيات على أنه الحق. فهي آيات على أنه من عند الله. ولن يكون ما عند الله إلا حقا لا ريب فيه.
لا يؤمنون بأنه موحى به، ولا بالقضايا المترتبة على الإيمان بهذا الوحي من توحيد لله ودينونة له وحده ومن بعث وعمل صالح في الحياة.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
{ الَمَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
قال أبو جعفر : قد بينا القول في تأويل قوله ( الر ) و ( المر ) ونظائرهما من حروف المعجم التي افتتح بها أوائل بعض سور القرآن فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادتها ، غير أنا نذكر من الرواية ما جاء خاصّا به كلّ سورة افتُتِح أوّلها بشيء منها . فمما جاء من الرواية في ذلك في هذه السورة عن ابن عباس من نقل أبي الضحى مسلم بن صبيح وسعيد بن جبير عنه ، التفريق بين معنى ما ابتدىء به أوّلها مع زيادة الميم التي فيها على سائر سور ذوات الراء ، ومعنى ما ابتدىء به أخواتها ، مع نقصان ذلك منها عنها . ذكر الرواية بذلك عنه :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، عن هشيم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : المر قال : أنا الله أرى .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : قوله : المر قال : أنا الله أرى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : المر : فواتح يفتتح بها كلامه .
وقوله : تِلْكَ آياتُ الكِتاب يقول تعالى ذكره : تلك التي قصصت عليك خبرها آياتُ الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك إلى من أنزلته إليه من رسلي قبلك .
وقيل : عنى بذلك : التوراة والإنجيل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : المر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الكتب التي كانت قبل القرآن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : تِلْكَ آياتُ الكتاب قال : التوراة والإنجيل .
وقوله : والّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ الحَقّ ( وهو القرآن ) فاعمل بما فيه واعتصم به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، قال : حدثنا سفيان ، عن مجاهد : والّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ الحَقّ قال : القرآن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : والّذِي أُنْزِل إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ الحَقّ : أي هذا القرآن .
وفي قوله : وَالّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ وجهان من الإعراب : أحدهما الرفع على أنه كلام مبتدأ ، فيكون مرفوعا ب «الحق » و «الحق به » . وعلى هذا الوجه تأويل مجاهد وقتادة الذي ذكرنا قبل عنهما . والاَخر : الخفض على العطف به على الكتاب ، فيكون معنى الكلام حينئذٍ : تلك آيات التوراة والإنجيل والقرآن ، ثم يبتدىء الحقّ بمعنى ذلك الحقّ ، فيكون رفعه بمضمر من الكلام قد استغني بدلالة الظاهر عليه منه . ولو قيل : معنى ذلك : تلك آيات الكتاب الذي أنزل إليك من ربك الحقّ ، وإنما أدخلت الواو في «والذي » ، وهو نعت للكتاب ، كما أدخلها الشاعر في قوله :
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام *** ولَيْثِ الكَتِيبَةِ في المُزْدَحَمْ
فعطف بالواو ، وذلك كله من صفة واحد ، كان مذهبا من التأويل ولكن ذلك إذا تؤوّل كذلك فالصواب من القراءة في «الحقّ الخفض » على أنه نعت ل «الذي » .
وقوله : وَلكِنّ أكْثَرَ النّاس من مشركي قومك لا يصدقون بالحقّ الذي أنزل إليك من ربك ، ولا يقرّون بهذا القرآن وما فيه من محكم آيِه .
هكذا سميت من عهد السلف . وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يختلفوا في اسمها .
وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى { ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق } . فسميت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة ، فإن هذه السورة مكية كلها أو معظمها . وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } إلى قوله { وهو شديد المحال } مما نزل بالمدينة ، كما سيأتي تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة .
وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة . وعن أبي بشر قال : سألت سعيد ابن جبير عن قوله تعالى { ومن عنده علم الكتاب } أي في آخر سورة الرعد أهو عبد الله بن سلام? فقال : كيف وهذه سورة مكية ، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا : أنها مدنية ، وهو عن عكرمة والحسن البصري ، وعن عطاء عن ابن عباس . وجمع السيوطي وغيره بين الروايات بأنها مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله { هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا } إلى قوله { شديد المحال } وقوله { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } . قال ابن عطيه : والظاهر أن المدني فيها كثير ، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني .
وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله { أو لم يروا إنا نأتي الأرض تنقصها من أطرافها } كما ستعلمه ، وقوله تعالى { كذلك أرسلناك في أمة } إلى { وإليه متاب } ، فقد قال مقاتل وابن جريج : نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها .
ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية وتفريع المشركين وتهديدهم . والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية ، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكية . ومن آياتها نزلت بالمدينة وألحقت بها ، فإن ذلك في بعض سور القرآن ، فالذين قالوا : هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم .
والذين جعلوها مدنية عدوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمان وعدوها سابعة وتسعين في عداد النزول . وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها .
وعدت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام .
أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية .
ومهد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله ، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس .
ثم انتقل إلى أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث .
وتهديدهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم .
والتذكير بنعم الله على الناس .
وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم .
وأن الله العالم بالخفايا وأن الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة .
والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم .
والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار .
وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم .
ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين . وما أعد الله لهم من الخير .
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل عليهم السلام من قبله .
والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله .
تقدم الكلام على نظائر { المر } مما وقع في أوائل بعض السور من الحروف المقطعة .
{ تلك ءايات الكتاب والذي أزل إلي من بك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }
القول في { تلك آيات الكتاب } كالقول في نظيره من طالعة سورة يونس .
والمشار إليه ب { تلك } هو ما سبق نزوله من القرآن قبل هذه الآية أخبر عنها بأنها آيات ، أي دلائل إعجازٍ ، ولذلك أشير إليه باسم إشارة المؤنث مراعاة لتأنيث الخبر .
وقوله : { والذي أنزل إليك من ربك الحق } يجوز أن يكون عطفاً على جملة { تلك آيات الكتاب } فيكون قوله : { والذي أنزل إليك } إظهار في مقام الإضمار . ولم يكتف بعطف خبَرٍ على خبر اسم الإشارة بل جيء بجملة كاملة مبتدئة بالموصول للتعريف بأن آيات الكتاب منزلة من عند الله لأنها لما تقرر أنها آيات استلزم ذلك أنها منزلة من عند الله ولولا أنها كذلك لما كانت آيات .
وأخبر عن الذي أنزل بأنه الحق بصيغة القصر ، أي هو الحق لا غيره من الكتب ، فالقصر إضافي بالنسبة إلى كتب معلومة عندهم مثل قصة رستم وإسفَنْديار اللتين عرفهما النضر بن الحارث . فالمقصود الردّ على المشركين الذين زعموه كأساطير الأولين ؛ أو القصرُ حقيقي ادعائي مبالغة لعدم الاعتداد بغيره من الكتب السابقة ، أي هو الحق الكامل ، لأن غيره من الكتب لم يستكمل منتهى مراد الله من الناس إذ كانت درجات موصلة إلى الدرجة العليا ، فلذلك ما جاء منها كتاب إلا ونسخ العمل به أو عيّن لأمة خَاصة « إنّ الدين عند الله الإسلام » .
ويجوز أن يكون عطف مفرد على قوله : { الكتاب } مفرد ، من باب عطف الصفة على الاسم ، مثل ما أنشد الفراء :
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة بالمزدحم
والإتيان ب { ربك } دون اسم الجلالة للتلطف . والاستدراكُ بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } راجع إلى ما أفاده القصر من إبطال مساواة غيره له في الحقية إبطالاً يقتضي ارتفاع النزاع في أحقيته ، أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بما دلت الأدلة على الإيمان به ، فمن أجل هذا الخلق الذميم فيهم يستمر النزاع منهم في كونه حقاً .
وابتداء السورة بهذا تنويه بما في القرآن الذي هذه السورة جزء منه مقصود به تهيئة السامع للتأمل مما سيرد عليه من الكلام .