بعد ذلك يصور حقيقة الترابط بين موكب الرسل والرسالات ، على عهد من الله وميثاق ، ينبني عليه فسوق من يتولى عن اتباع آخر الرسالات ، وشذوذه عن عهد الله وناموس الكون كله على الإطلاق :
( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين : لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه . قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا : أقررنا . قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين . فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون . أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وإليه يرجعون ؟ ) . .
لقد أخذ الله - سبحانه - موثقا رهيبا جليلا كان هو شاهده وأشهد عليه رسله . موثقا على كل رسول . أنه مهما آتاه من كتاب وحكمة ، ثم جاء رسول بعده مصدقا لما معه ، أن يؤمن به وينصره ، ويتبع دينه . وجعل هذا عهدا بينه وبين كل رسول .
والتعبير القرآني يطوي الأزمنة المتتابعة بين الرسل ؛ ويجمعهم كلهم في مشهد . والله الجليل الكبير يخاطبهم جملة : هل أقروا هذا الميثاق وأخذوا عليه عهد الله الثقيل :
( قال : أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ ) . .
فيشهد الجليل على هذا الميثاق ويشهدهم عليه :
( قال : فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) :
هذا المشهد الهائل الجليل ، يرسمه التعبير ، فيجف له القلب ويجب ؛ وهو يتمثل المشهد بحضرة البارىء الجليل ، والرسل مجتمعين . .
وفي ظل هذا المشهد يبدو الموكب الكريم متصلا متساندا مستسلما للتوجيه العلوي ، ممثلا للحقيقة الواحدة التي شاء الله - سبحانه - أن تقوم عليها الحياة البشرية ، ولا تنحرف ، ولا تتعدد ، ولا تتعارض ، ولا تتصادم . . إنما ينتدب لها المختار من عباد الله ؛ ثم يسلمها إلى المختار بعده ، ويسلم نفسه معها لأخيه اللاحق به . فما للنبي في نفسه من شيء ؛ وما له في هذه المهمة من أرب شخصي ، ولا مجد ذاتي . إنما هو عبد مصطفىومبلغ مختار . والله - سبحانه - هو الذي ينقل خطى هذه الدعوة بين أجيال البشر ؛ ويقود هذا الموكب ويصرفه كيف يشاء .
ويخلص دين الله - بهذا العهد وبهذا التصور - من العصبية الذاتية . عصبية الرسول لشخصه . وعصبيته لقومه . وعصبية أتباعه لنحلتهم . وعصبيتهم لأنفسهم . وعصبيتهم لقوميتهم . . ويخلص الأمر كله لله في هذا الدين الواحد ، الذي تتابع به وتوإلى ذلك الموكب السني الكريم .
{ وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوَاْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين ، يعني حين أخذ الله ميثاق النبيين ، وميثاقهم : ما وثقوا به على أنفسهم طاعة الله فيما أمرهم ونهاهم . وقد بينا أصل الميثاق باختلاف أهل التأويل فيه بما فيه الكفاية . { لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق¹ { لَمَا آتَيْتُكُمْ } بفتح اللام من
«لما » ، إلا أنهم اختلفوا في قراءة آتيتكم ، فقرأه بعضهم { آتَيْتُكُمْ } على التوحيد ، وقرأه آخرون : «آتيناكم » ، على الجمع .
ثم اختلف أهل العربية إذا قرىء ذلك كذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : اللام التي مع «ما » في أوّل الكلام لام الابتداء ، نحو قول القائل : لزيد أفضل منك ، لأن «ما » اسم ، والذي بعدها صلة لها ، واللام التي في : { لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } لام القسم ، كأنه قال : والله لتؤمننّ به ، يؤكد في أول الكلام وفي آخره ، كما يقال : أما والله أن لو جئتني لكان كذا وكذا ، وقد يستغنى عنها فيؤكد في لتؤمننّ به باللام في آخر الكلام ، وقد يستغنى عنها ، ويجعل خبر «ما آتيتكم من كتاب وحكمة » ، «لتؤمننّ به » ، مثل : «لعبدالله والله لا آتينه » ، قال : وإن شئت جعلت خبر «ما » «من كتاب » يريد : لما آتيتكم كتابٌ وحكمة ، وتكون «من » زائدة . وخطّأ بعض نحويي الكوفيين ذلك كله ، وقال : اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا «لا » فلا يقال لمن قام : لا تتبعه ، ولا لمن قام : ما أحسن ، فإذا وقع في جوابها «ما » و«لا » علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى ، لأنه يوضع موضعها «ما » و«لا » ، فتكون كالأولى ، وهي جواب للأولى . قال : وأما قوله : { لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } بمعنى إسقاط «من » غلط ، لأن «من » التي تدخل وتخرج لا تقع مواقع الأسماء ، قال : ولا تقع في الخبر أيضا ، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء .
وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية على قراءة من قرأ ذلك بفتح اللام بالصواب أن يكون قوله : { لَمَا } بمعنى : لمهما ، وأن تكون «ما » حرف جزاء أدخلت عليها اللام ، وصير الفعل معها على فَعَل ، ثم أجيبت بما تجاب به الأيمان ، فصارت اللام الأولى يمينا إذ تلقيت بجواب اليمين .
وقرأ ذلك آخرون : «لِما آتَيْتُكُمْ » بكسر اللام من «لما » ، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة .
ثم اختلف قارئوا ذلك كذلك في تأويله ، فقال بعضهم : معناه إذا قرىء كذلك : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم ، فما على هذه القراءة بمعنى : الذي عندهم . وكان تأويل الكلام : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول : يعني : ثم إن جاءكم رسول ، يعني ذكر محمد في التوراة ، لتؤمنن به ، أي ليكونن إيمانكم به للذي عندكم في التوراة من ذكره .
وقال آخرون منهم : تأويل ذلك إذا قرىء بكسر اللام من «لِما » . وإذ أخذ الله ميثاق النبيين للذي آتاهم من الحكمة ، ثم جعل قوله : لتؤمنن به من الأخذ ، أخذ الميثاق ، كما يقال في الكلام : أخذت ميثاقك لتفعلن لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف . فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول : وإذا استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة ، متى جاءهم رسول مصدق لما معهم ليؤمننّ به ولينصرنه .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ } بفتح اللام ، لأن الله عز وجلّ أخذ ميثاق جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم ، كان ممن آتاه كتابا ، أو من لم يؤته كتابا . وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عزّ وجلّ ورسله ، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن منهم من أنزل عليه الكتاب ، وأن منهم من لم ينزل عليه الكتاب ، كان بيّنا أن قراءة من قرأ ذلك : «لِمَا آتَيْتُكُمْ » بكسر اللام ، بمعنى : من أجل الذي آتيتكم من كتاب ، لا وجه له مفهوم إلا على تأويل بعيد ، وانتزاع عميق .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رسل الله مصدّقا لما معه ، فقال بعضهم : إنما أخذ الله بذلك ميثاق أهل الكتاب ، دون أنبيائهم ، واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله : { لَتُؤْمِنَنّ بِه وَلتَنْصُرَنّهُ } قالوا : فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرسل من الأمم بالإيمان برسل الله ، ونصرتها على من خالفها . وأما الرسل فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد ، لأنها المحتاجة إلى المعونة على من خالفها من كفرة بني آدم ، فأما هي فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها . قالوا : وإذا لم يكن غيرها وغير الأمم الكافرة ، فمن الذي ينصر النبيّ ، فيؤخذ ميثاقه بنصرته ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } قال : هي خطأ من الكاتب ، وهي في قراءة ابن مسعود : «وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ } يقول : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، وكذلك كان يقرؤها الربيع : «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب » ، إنما هي أهل الكتاب ، قال : وكذلك كان يقرؤها أبيّ بن كعب ، قال الربيع : ألا ترى أنه يقول : { ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّق لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنَنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } يقول : لتؤمننّ بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه ، قال : هم أهل الكتاب .
وقال آخرون : بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك الأنبياء دون أممها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ } أن يصدّق بعضهم بعضا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ } . . . الآية ، قال : أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء ليصدقنّ وليؤمننّ بما جاء به الآخِر منهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : لم يبعث الله عزّ وجلّ نبيا ، آدم فمن بعده ، إلا أخذ عليه العهد في محمد : لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ، فقال : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ } . . . الآية ، هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته . فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذ عليهم فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويصدّقوه وينصروه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . الآية . قال : لم يبعث الله عزّ وجلّ نبيا قط من لدن نوح إلا أخذ ميثاقه : ليؤمننّ بمحمد ، ولينصرنه إن خرج وهو حيّ ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ، ولينصرنه إن خرج وهم أحياء .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور قال : سألت الحسن ، عن قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِن كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . الآية كلها ، قال : أخذ الله ميثاق النبيين : ليبلغنّ آخركم أولكم ولا تختلفوا .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه ميثاق النبيين وأممهم ، فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها ، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التباع ، لأن الأمم هم تبّاع الأنبياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : ثم ذكر ما أخذ عليهم ، يعني على أهل الكتاب ، وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه ، يعني بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم ، وإقرارهم به على أنفسهم ، فقال : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } . . . إلى آخر الآية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : الخبر عن أخذ الله الميثاق من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضا ، وأخذ الأنبياء على أممها ، وتباعها الميثاق بنحو الذي أخذ عليها ربها ، من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به ، لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها ، ولم يدّع أحد ممن صدق المرسلين أن نبيا أرسل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عزّ وجلّ ، وحججه في عباده ، بل كلها ، وإن كذّب بعض الأمم بعض أنبياء الله بجحودها نبوّته ، مقرّ بأن من ثبتت صحة نبوّته ، فعليها الدينونة بتصديقه فذلك ميثاق مقرّ به جميعهم . ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء ، لأن الله عزّ وجلّ ، قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين ، فسواء قال قائل : لم يأخذ ذلك منها ربها ، أو قال : لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت ، وقد نصّ الله عزّ وجلّ أنه أمرها بتبليغه ، لأنهما جميعا خبران من الله عنها ، أحدهما أنه أخذ منها ، والاَخر منهما أنه أمرها ، فإن جاز الشكّ في أحدهما جاز في الاَخر . وأما ما استشهد به الربيع بن أنس على أن المعنيّ بذلك أهل الكتاب من قوله : { لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرنّهُ } فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال ، لأن الأنبياء قد أمر بعضها بتصديق بعض ، وتصديق بعضها بعضا ، نصرة من بعضها بعضا .
ثم اختلفوا في الذين عنوا بقوله : { ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } فقال بعضهم : الذين عنوا بذلك هم الأنبياء ، أخذت مواثيقهم أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن ينصروه ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله .
وقال آخرون : هم أهل الكتاب أمروا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته ، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك ، وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضا عمن قاله .
وقال آخرون ممن قال الذين عنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الاَية هم الأنبياء ، قوله : { ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ } معنيّ به أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر . قال : أخبرنا ابن طاوس ، عن أبيه في قوله : { وَإِذْ أخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لِمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ } قال : أخذ الله ميثاق النبيين : أن يصدّق بعضهم بعضا ، ثم قال : { ثُمّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُوءْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ } قال : فهذه الآية لأهل الكتاب أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدّقوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : قال قتادة : أخذ الله على النبيين ميثاقهم أن يصدّق بعضهم بعضا ، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالته إلى عباده ، فبلّغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم ، وأخذوا مواثيق أهل الكتاب في كتابهم ، فيما بلغتهم رسلهم ، أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويصدّقوه وينصروه .
وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية : أن جميع ذلك خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به ، وألزمهم دعاء أممهم إليه والإقرار به ، لأن ابتداء الآية خبر من الله عزّ وجلّ عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم ، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم ، فقال : هو كذا وهو كذا .
وإنما قلنا إن ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك ، قد أخذت الأنبياء مواثيق أممها به ، لأنها أرسلت لتدعو عباد الله إلى الدينونة ، بما أمرت بالدينونة به في أنفسها من تصديق رسل الله على ما قدمنا البيان قبل . فتأويل الآية : واذكروا يا معشر أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين لمهما آتيتكم أيها النبيون من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول من عندي مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ، يقول : لتصدقنه ولتنصرنه . وقد قال السديّ في ذلك بما :
حدثنا به محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قوله : { لَمَا آتَيْتُكُمْ } يقول لليهود : أخذت ميثاق النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم .
فتأويل ذلك على قول السديّ الذي ذكرناه : واذكروا يا معشر أهل الكتاب ، إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم أيها اليهود من كتاب وحكمة . وهذا الذي قاله السديّ كان تأويلاً لا وجه غيره لو كان التنزيل «بما آتيتكم » ، ولكن التنزيل باللام لما آتيتكم ، وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال : أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم ، بمعنى : بما آتيتكم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ على ذَلِكُمْ إِصْرِي ؟ قَالُوا أقْرَرْنا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر ، فقال لهم تعالى ذكره : أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه من أنكم مهما أتاكم رسول من عندي ، مصدّق لما معكم ، لتؤمننّ به ولتنصرنه ، { وأخَذْتُمْ على ذَلِكُمْ إِصْرِي } يقول : وأخذتم على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي ، والقيام بنصرتهم إصري ، يعني عهدي ووصيتي ، وقبلتم في ذلك مني ورضيتموه . والأخذ : هو القبول في هذا الموضع ، والرضا من قولهم : أخذ الوالي عليه البيعة ، بمعنى : بايعه ، وقبل ولايته ، ورضي بها . وقد بينا معنى الإصر باختلاف المختلفين فيه ، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وحذفت الفاء من قوله : { قَالَ أأقْرَرْتُمْ } لأنه ابتداء كلام على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى . وأما قوله : { قَالُوا أقْرَرْنا } فإنه يعني به : قال النبييون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية : أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا من كتبك وبنصرتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَاشْهَدُوا وأنا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه ، قال الله : فاشهدوا أيها النبييون بما أخذت به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة ، ونصرتهم على أنفسكم ، وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك ، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك . كما :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن هاشم ، قال : أخبرنا سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { قَالَ فَاشْهَدُوا } يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك ، { وأنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } عليكم وعليهم .
عطف { وإذْ أخذ الله } على { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة } [ آل عمران : 80 ] أي ما أمركم الأنبياء بشيء مما تقوّلتم عليهم وقد أمروكم بغير ذلك فأضعتموه حين أخذ الله ميثاقهم لِيُبَلِّغوه إليكم ، فالمعطوف هو ظرف ( إذْ ) وما تعلق به .
ويجوز أن يتعلق ( إذ ) بقوله : { أأقررتم } مقدماً عليه . ويصح أن تجعل ( إذ ) بمعنى زمان غير ظرف والتقدير : واذْكر إذْ أخذ الله ميثاق النبيين ، فالمقصود الحكاية عن ذلك الزمان وما معه فيكون { قال أقررتم } معطوفاً بحذف العاطف . كما هو الشأن في جمل المحاورة وكذلك قوله : { قالوا أقررنا } .
ويصح أن تكون جملة { قال أأقررتم } وما بعدها بياناً لجملة { أخذ اللَّه ميثاق النبيين } باعتبار ما يقتضيه فعل أخذ الله ميثاقَ النبيين : من أنّ النبيين أعْطَوْا ميثاقاً لله فقال : أأقررتم قالوا : أقررنا إلخ . ويكون قوله : { لما آتيناكم } إلى قوله { ولتنصرنه } هو صيغة الميثاق .
وهذا الميثاق أخذه الله على جميع الأنبياء ، يؤذنهم فيه بأنّ رسولاً يجيء مصدّقاً لما معهم ، ويأمُرُهم بالإيمان به وبنصره ، والمقصود من ذلك إعلام أممهم بذلك ليَكون هذا الميثاق محفوظاً لدى سائر الأجيال ، بدليل قوله : { فمن تولّى بعد ذلك } إلخ إذ لا يجوز على الأنبياء التولّي والفسق ولكنّ المقصود أممهم كقوله : { لئن أشركت ليحبطن عملك } . وبدليل قوله قال : { فاشهدوا } أي على أممكم . وإلى هذا يرجع ما ورد في القرآن من دعوة إبراهيم عليه السلام : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] ، وقد جاء في سفر التثنية قول موسى عليه السلام : « قال لي الربّ أقيم لهم نبيئاً من وسط إخوتهم مثلَك وأجْعَلُ كلامي في فمه فيكلمهم بكلّ ما أوصيه به » . وإخوَةُ بني إسرائيل هم بنو إسماعيل ، ولو كان المراد نبيئاً إسرائيلياً لقال أقيم لهم نبيئاً منهم على ما في ترجمة التوراة من غموض ولعلّ النص الأصلي أصرح من هذا المترجم .
والبشارات في كتب أنبياء بني إسرائيل وفي الأناجيل كثيرة ففي متى قول المسيح « وتقوم أنبياء كذَبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكنّ الذي يصبر أي يبقى أخيراً إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادةً لجميع الأمم ثم يَأتي المنتهَى » وفي إنجيل يوحنا قول المسيح « وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّياً آخر ليَمكث معكم إلى الأبد وأما المُعَزِّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلتُه لكم ومتى جاء المعزِّي روحُ الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي » إلى غير ذلك .
وفي أخذ العهد على الأنبياء زيادة تنويه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى هو ظاهر الآية ، وبه فسر محققو المفسرين من السلف والخلف منهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وطاووس ، والسدي .
ومن العلماء من استبعد أن يكون أخذ العهد على الأنبياء حقيقة نظراً إلى قوله : { فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } ( توهموه متعيناً لأن يكون المراد بمن تولّى من النبيين المخاطبين ، وستعلم أنه ليس كذلك ) فتأوّلوا الآية بأنّ المراد أخذ العهد على أممهم ، وسلكوا مسالك مختلفة من التأويل فمنهم من جعل إضافة الميثاق للنبيين إضافة تشبه إضافة المصدر إلى فاعله أي أخذ الله على الأمم ميثاق أنبيائهم منهم . ومنهم من قدَّر حذف المضاف أي أمم النبيئين أو أولاد النبيئين وإليه مال قول مجاهد والربيع ، واحتجوا بقراءة أبي ، وابن مسعود ، هذه الآية : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيناكم من كتاب ، ولم يقرأ ميثاق النبيئين ، وزاد مجاهد فقال : إن قراءة أبي هي القرآن ، وإنّ لفظ النبيئين غلط من الكتَّاب ، وردّه ابن عطية وغيره بإجماع الصحابة والأمة على مصحف عثمان .
وقوله : { لما آتيناكم } قرأ الجمهور « لَمَا » بفتح اللام وتخفيف الميم فاللام موطئة للقسم ، لأنّ أخذ الميثاق في معنى اليمين وما موصوله مبتدأ { وآتيناكم } صلته وحذف العائد المنصوب جرى على الغالب في مثله ومِن كتاب بيان للموصول وصلتِه ، وعُطف { ثم جاءكم } على { آتيْناكم } أي الذي آتيناكموه وجاءكم بعده رسول . و{ لتؤمننّ } اللام فيه لام جواب القسم والجواب سدّ مسد خبر المبتدأ كما هو المعروف وضمير به عائد على المذكور أي لتؤمنّن بما آتيناكم وبالرسول ، أو هو عائد على الرسول وحذف ما يعود على ما آتيناكم لظهوره .
وقرأه حمزة : بكسر لام لما فتكون اللام للتعليل متعلق بقوله : { لتؤمننّ به } أي شكراً على ما آتيتُكم وعلى أن بعثت إليكم رسولاً مصدّقاً لما كنتم عليه من الدين ولا يضرّ عمل مَا بعد لام القسم فيما قبلها فأخْذ الميثاق عليهم مطلقاً ثم علّل جواب القسم بأنه من شكر نعمة الإيتاء والتصديق ، ولا يصح من جهة المعنى تعليق { لما آتيتكم } بفعل القسم المحذوف ، لأنّ الشكر علة للجواب ، لا لأخْذ العهد .
ولام { لتؤمِننّ } لام جواب القسم ، على الوجه الأول ، وموطئة للقسم على الوجه الثاني .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر : آتيناكم بنون العظمة وقرأه الباقون { آتيتكم } بتاء المتكلم .
وجملة قال : { أأقررتم } بدل اشتمال من جملة { أخذ الله ميثاق النبيين } .
والإقرار هنا مستعمل في معنى التحقيق بالوفاء مما أخذ من الميثاق .
والإصر : بكسر الهمزة ، العهد المؤكد الموثق واشتقاقه من الإصار بكسر الهمزة وهو ما يعقد ويسدّ به ، وقد تقدم الكلام على حقيقته ومجازه في قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } في سورة [ البقرة : 286 ] .
وقوله : { فاشهدوا } إن كان شهادة على أنفسهم فهي بمعنى التوثق والتحقيق وكذلك قوله : { وأنا معكم من الشاهدين } كقوله : { شهد اللَّه أنه لا إله إلا هو } [ آل عمران : 18 ] وإن كانت شهادة على أممهم بتبليغ ذلك الميثاق فالمعنى فاشهدوا على أممكم بذلك ، والله شاهد على الجميع كما شهد النبيئون على الأمم .