ذلك هو الإيقاع الأول ، في ذلك المشهد الخاشع الواجف المرهوب العسير . . ويليه الإيقاع الثاني عن الرزق الذي يستمتعون به ، ويغفلون عن مصدره ، الدال على وحدة الخالق الرازق . الباسط القابض ، الذي ليس له شريك :
( قل من يرزقكم من السماوات والأرض . . قل الله . وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) . .
والرزق مسألة واقعة في حياتهم . رزق السماء من مطر وحرارة وضوء ونور . . ذلك فيما كان يعرفه المخاطبون ووراءه كثير من الأصناف والألوان تتكشف آناً بعد آن . . ورزق الأرض من نبات وحيوان وعيون ماء وزيوت ومعادن وكنوز . . وغيرها مما يعرفه القدامى ويتكشف غيره على مدار الزمان . .
( قل : من يرزقكم من السماوات والأرض ? ) . .
فما يملكون أن يماروا في هذا ولا أن يدعوا سواه .
قل : الله . ثم كل أمرهم وأمرك إلى الله . فأحدكما لا بد مهتد وأحدكما لا بد ضال . ولا يمكن أن تكون أنت وهم على طريق واحد من هدى أو من ضلال :
( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) . .
وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال . أن يقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] للمشركين : إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى ، والآخر لا بد أن يكون على ضلال . ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال . ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم ، والرغبة في الجدال والمحال ! فإنما هو هاد ومعلم ، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم ، لمجرد الإذلال والإفحام !
الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام ، المستكبرين على الإذعان والاستسلام ، وأجدر بأن يثير التدبر الهادىء والاقتناع العميق . وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السموات والأرض بإنزاله الغيث عليكم منها حياة لحروثكم ، وصلاحا لمعايشكم ، وتسخيره الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم ، ومنافع أقواتكم ، والأرض بإخراجه منها أقواتكم وأقوات أنعامكم ؟ وترك الخبر عن جواب القوم استغناء بدلالة الكلام عليه ، ثم ذكره ، وهو : فإن قالوا : لا ندري ، فقل : الذي يرزقكم ذلك الله ، وإنا أو إياكم أيها القوم لعلى هُدًى أو في ضلال مبين يقول : قل لهم : إنا لعلى هدى أو في ضلال ، أو إنكم على ضلال أو هُدًى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وإنّا أوْ إيّاكُمْ لعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال : قد قال ذلك أصحاب محمد للمشركين ، والله ما أنا وأنتم على أمر واحد ، إنّ أحد الفريقين لمهتد .
وقد قال قوم : معنى ذلك : وإنا لعلى هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين . ذكر من قال ذلك :
حدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيديّ ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف عن عكرمة وزياد ، في قوله : وَإنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هَدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال : إنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين .
واختلف أهل العربية في وجه دخول «أو » في هذا الموضع ، فقال بعض نحوييّ البصرة : ليس ذلك لأنه شك ، ولكن هذا في كلام العرب على أنه هو المهتدِي ، قال : وقد يقول الرجل لعبده : أحدنا ضارب صاحبه ، ولا يكون فيه إشكال على السامع أن المولى هو الضارب .
وقال آخر منهم : معنى ذلك : إنا لعلى هدى ، وإنكم إياكم في ضلال مبين ، لأن العرب تضع «أو » في موضع واو الموالاة ، قال جرير :
أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أوْ رِياحا *** عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيّةَ والخِشابا
قال : يعني ثعلبة ورياحا ، قال : وقد تكلم بهذا من لا يشكّ في دينه ، وقد علموا أنهم على هدى ، وأولئك في ضلال ، فيقال : هذا وإن كان كلاما واحدا على جهة الاستهزاء ، فقال : هذا لهم ، وقال :
فإنْ يَكُ حُبّهُمْ رُشْدا أُصِبْهُ *** وَلسْتُ بِمُخْطىءٍ إنْ كانَ غَيّا
وقال بعض نحويي الكوفة : معنى «أو » ومعنى الواو في هذا الموضع في المعنى ، غير أن القرينة على غير ذلك لا تكون «أو » بمنزلة الواو ، ولكنها تكون في الأمر المفوّض ، كما تقول : إن شئت فخذ درهما أو اثنين ، فله أن يأخذ اثنين أو واحدا ، وليس له أن يأخذ ثلاثة . قال : وهو في قول من لا يبصر العربية ، ويجعل «أو » بمنزلة الواو ، ويجوز له أن يأخذ ثلاثة ، لأنه في قولهم بمنزلة قولك : خذ درهما أو اثنين قال : والمعنى في إنّا أو إياكُمْ إنا لضالون أو مهتدون ، وإنكم أيضا لضالون ، وهو يعلم أن رسوله المهتدي ، وأن غيره الضالّ . قال : وأنت تقول في الكلام للرجل يكذّبك . واللّهِ إن أحدنا لكاذب ، وأنت تعنيه ، وكذّبته تكذيبا غير مكشوف ، وهو في القرآن وكلام العرب كثير ، أن يوجّه الكلام إلى أحسن مذاهبه ، إذا عرف ، كقول القائل لمن قال : والله لقد قدم فلان ، وهو كاذب فيقول : قل : إن شاء الله ، أو قل : فيما أظنّ ، فيكذّبه بأحسن تصريح التكذيب . قال : ومن كلام العرب أن يقولوا : قاتله الله ، ثم يستقبح فيقولون : قاتله الله ، وكاتعه الله . قال : ومن ذلك : ويحَك ، وويسَك ، إنما هي في معنى : ويْلَك ، إلا أنها دونها .
والصواب من القول في ذلك عندي أن ذلك أمر من الله لنبيه بتكذيب من أمره بخطابه بهذا القول بأجمل التكذيب ، كما يقول الرجل لصاحب له يخاطبه ، وهو يريد تكذيبه في خبر له : أحدنا كاذب ، وقائل ذلك يعني صاحبه ، لا نفسه فلهذا المعنى صير الكلام بأو .
انتقال من دَمْغ المشركين بضعف آلهتهم وانتفاء جدواها عليهم في الدنيا والآخرة إلى إلزامهم بطلان عبادتها بأنها لا تستحق العبادة لأن مستحق العبادة هو الذي يرزق عباده فإن العبادة شكر ولا يستحق الشكر إلا المنعم ، وهذا احتجاج بالدليل النظري لأن الاعتراف بأن الله هو الرزاق يستلزم انفراده بإلهيته إذ لا يجوز أن ينفرد ببعض صفات الإلهية ويشارك في بعض آخر فإن الإِلهية حقيقة لا تقبل التجزئة والتبعيض .
وأعيد الأمر بالقول لزيادة الاهتمام بالمقول فإن أصل الأمر بالقول في مقام التصدّي للتبليغ دال على الاهتمام ، وإعادة ذلك الأمر زيادة في الاهتمام .
و { مَن } استفهام للتنبيه على الخطأ ولذلك أعقب بالجواب من طرف السائل بقوله : { قل الله } لتحقق أنهم لا ينكرون ذلك الجواب كما في قوله تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار } إلى قوله : { فسيقولون اللَّه } في سورة يونس ( 31 ) . وتقدم نظير صدر هذه الآية في سورة الرعد .
وعطف على الاستفهام إبراز المقصد بطريقة خفية تُوقع الخصم في شرك المغلوبية وذلك بترديد حالتي الفريقين بين حالة هدى وحالة ضلال لأن حالة كل فريق لما كانت على الضد من حال الفريق الآخر بَيْن موافقة الحق وعدمها ، تعين أن أمر الضلال والهدى دائر بين الحالتين لا يعدوانهما . ولذلك جيء بحرف { أو } المفيد للترديد المنتزع من الشك .
وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصِف وهو أن لا يترك المُجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال ، ويسمى في علم المناظرة إرخاءَ العنان للمناظِر ، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة .
ومن لطائفه هنا أن اشتمل على إيماء إلى ترجيح أحد الجانبين في أحد الاحتمالين بطريق مقابلة الجانبين في ترتيب الحالتين باللف والنشر المرتّب وهو أصل اللفّ . فإنه ذكر ضمير جانب المتكلم وجماعته وجانب المخاطبين ، ثم ذكر حال الهدى وحال الضلال على ترتيب ذكر الجانبين ، فأومأ إلى أن الأولِين موجَّهون إلى الهدى والآخِرين موجهُون إلى الضلال المبين ، لا سيما بعد قرينة الاستفهام ، وهذا أيضاً من التعريض وهو أوقع من التصريح لا سيما في استنزال طائر الخصم .
وفيه أيضاً تجاهل العارف فقد التأمَ في هذه الجملة ثلاثة محسنات من البديع ونكتة من البيان فاشتملت على أربع خصوصيات .
وجيء في جانب أصحاب الهدى بحرف الاستعلاء المستعار للتمكن تمثيلاً لحال المهتدي بحال متصرّف في فرسه يركضه حيث شاء فهو متمكّن من شيء يبلغ به مقصده . وهي حالة مُماثلة لحال المهتدي على بصيرة فهو يسترجع مناهج الحق في كل صوب ، متَسعَ النظر ، منشرحَ الصدر : ففيه تمثيلية مكنية وتبعية .
وجيء في جانب الضالّين بحرف الظرفية المستعار لشدة التلبس بالوصف تمثيلاً لحالهم في إحاطة الضلال بهم بحال الشيء في ظرف محيط به لا يتركه يُفارقه ولا يتطلع منه على خلاف ما هو فيه من ضيق يلازمه .
وفيه أيضاً تمثيلية تبعية ، وهذا ينظر إلى قوله تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً } [ الأنعام : 125 ] .
فحصل في الآية أربع استعارات وثلاثة محسنات من البديع وأسلوب بياني ، وحجة قائمة ، وهذا إعجاز بديع .
ووُصف الضلال بالمبين دون وصف الهدى بالمبين لأن حقيقة الهدى مقول عليها بالتواطؤ وهو معنى قول أصحابنا الأشاعرة : الإِيمان لا يزيد ولا ينقص في ذاته وإنما زيادته بكثرة الطاعات ، وأما الكفر فيكون بإنكار بعض المعتقدات وبإنكار جميعها وكل ذلك يصدق عليه الكفر . ولذلك قيل كفرٌ دون كفر ، فوصف كفرهم بأنه أشدّ الكفر ، فإن المبين هو الواضح في جنسه البالغ غاية حده .