في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

40

وعلم الله الكامل يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن ، وكائنات لا يعلم إلا الله ما هي ? وما قدرها ? وما درجتها .

وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض :

( ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ) . وهو تفضيل يعلم الله أسبابه . أما مظاهر هذا التفضيل فقد سبق الحديث عنها في الجزء الثالث من هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى : )تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) . .

فيراجع في موضعه هناك :

( وآتينا داود زبورا ) . . وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه ، ومن مظاهر التفضيل أيضا . إذ كانت الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من الزمان .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد أعلم بمن في السموات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم ، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ، ومن هو أهل للعذاب ، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة ، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان ، يقول : فلا يكبرنّ ذلك عليك ، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض ، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق ، وبعضهم إلى الجميع ، ورفعي بعضهم على بعض درجات . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَرَبّكَ أعْلَمُ بِمَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلّم موسى تكليما ، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه ، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبورا ، كنا نحدّث دعاء عُلّمه داود ، تحميد وتمجيد ، ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْض النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافّة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه السلام { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم ، فهذه إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشراً ، المعنى : لا تنكروا أمر محمد عليه السلام ، وإن أوتي قرآناً ، فقد فضل النبيون ، وأوتي داود زبوراً ، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وتفضيل بعض الرسل ، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد أفضل البشر ، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس ، وإما أن يكون التفضيل مقسماً فيهم : أعطي هذا التكليم ، وأعطيت هذه الخلفة ، ومحمد الخمس ، وعيسى الإحياء ، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق ، وقوله { بمن في السماوات } ، الباء متعلقة بفعل تقديره ، علم من في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها ب { أعلم } لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ويصح تعلقها ب { أعلم } ولا يلتفت لدليل الخطاب{[7603]} وقرأ الجمهور : «زَبوراً » بفتح الزاي ، وهو فَعول بمعنى مفعول ، وهو قليل لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب ، وقرأ حمزة ويحيى والأعمش «زُبوراً » بضم الزاي ، وله وجهان : أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد{[7604]} ، كما قالوا في جمع ظريف ، ظروف ، والآخر ، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود ، جزىء أجزاء كل جزء منها زبر{[7605]} ، سمي بمصدر زبر يزبر ، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور ، فكأنه قال : آتينا داود كتباً ، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر{[7606]} ، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيراً ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، في آخر كتاب مسلم : «وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له »{[7607]} ، قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام .


[7603]:أيد أبو حيان الأندلسي في (البحر المحيط) هذا الكلام، وقال: "وأيضا فإن (علم) لا يتعدى بالباء، إنما يتعدى لواحد بنفسه لا بوساطة حرف الجر"، ثم قال: "و[بمن] متعلق ب [أعلم] كما تعلق [بكم] قبله ب[أعلم]، ولا يدل تعلقه به على اختصاص أعلميته تعالى بما تعلق به، كقولك: "زيد أعلم بالنحو" إذ لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم".
[7604]:وهو الواو، قال ذلك أبو حيان.
[7605]:وهذا مثل فلس وفلوس.
[7606]:في اللسان (زبر): "ماله زبر، أي: ماله رأي، وقيل: ماله عقل وتماسك".
[7607]:أخرجه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، ولفظ المسند هو، عن عياض بن حماد أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: (إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عجميهم وعربيهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤوه نائما ويقظانا، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: يا رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، فاعزهم نغزك، وأنفق عليهم فسننفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك. وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل فقير عفيف متصدق، وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعا - أو تبعاء ، شك يحيى- لا يبغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى عليه طمع وإن رق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك، وذكر البخل والكذب والشنظير الفاحش). ومعنى (لا يغسله الماء): محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على ممر الزمان. وأما قوله: (تقرؤه نائما ويقظانا) فمعناه: يكون محفوظا لك في حالتي النوم واليقظة، وقيل: تقرؤه في سهولة ويسر، وفي رواية مسلم: (نائما يقظان). ومعنى (يثلغوا): يشدخوا ويشجوا. ونغزك: نعينك، ومعنى (لا زبر له): لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي. وفي رواية مسلم: (والشنظير الفحاش). صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ أَعۡلَمُ بِمَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ فَضَّلۡنَا بَعۡضَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ عَلَىٰ بَعۡضٖۖ وَءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ زَبُورٗا} (55)

تماثل القرينتين في فاصلتيْ هذه الآية من كلمة { والأرض } وكلمة { على بعض } ، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض ، وأن ليس قوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } تكملة لآية { ربكم أعلم بكم } [ الإسراء : 54 ] الآية .

وتغيير أسلوب الخطاب في قوله : { وربك أعلم } بعد قوله : { ربكم أعلم بكم } [ الإسراء : 54 ] إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شؤون النبي التي لها مزيد اختصاص به ، تقفية على إبطال أقوال المشركين في شؤون الصفات الإلهية ، بإبطال أقوالهم في أحوال النبي . ذلك أن المشركين لم يقبلوا دعوة النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم ، وقالوا : أبعث الله يتيم أبي طالب رسولاً ، أبعث الله بشراً رسولاً ، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } فهو العالم حيث يجعل رسالته .

وكان قوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } كالمقدمة لقوله : { ولقد فضلنا بعض النبيئين } الآية . أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمستأهل للرسالة بحسب ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك ، كما قال الله تعالى عنهم { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته } في سورة [ الأنعام : 124 ] .

وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها ، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم ؛ لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر ، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم ، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام . وذلك يثير أحوالاً جمة من العصور والرجال والأمم أحياءً وأمواتاً . فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله : { بمن في السماوات والأرض } ، وهو أيضاً كالمقدمة لجملة { ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض } ، مشيراً إلى أن تفاضل الأنبياء ناشىء على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل . وهذا إيجاز تضمن إثباتَ النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره ، وتعدّدَ الأنبياء مما يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل ، وإثباتَ التفاضل بين الأفراد من البشر ، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم ، وإثباتَ التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل . وتقرر ذلك فيما مضى تقرراً لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنةً إلهية مقررة لا نكران لها . فعلم أن طعنهم في نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم طعن مكابرة وحسد . كما قال تعالى في شأن اليهود { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً } في سورة [ النساء : 54 ] .

وتخصيص داوود عليه السلام بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب « الكشاف » ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون . وهذا حسن . وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيراً من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها ، وأن التفضيل بالنبوءة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة ؛ فإن داوود عليه السلام كان راعياً من رعاة الغنم في بني إسرائيل ، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر ، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داوود لمحاربة جالوت الكنعاني ، فلما قَتل داوودُ جالوتَ آتاه الله النبوءة وصيره ملِكاً لإسرائيل ، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة .

وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم وينتصرون عليهم لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفاً . وقد أوتي داوود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتاباً بعد موسى عليه السلام .

وذكر داوود تقدم في سورة الأنعام وفي آخر سورة النساء .

وأما الزبور فذكر عند قوله تعالى : { وآتينا داوود زبورا } في آخر سورة [ النساء : 163 ] .

والزبور : اسم لمجموع أقوال داوود عليه السلام التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم .