وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة . ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة :
( ووصينا الإنسان بوالديه ، حملته أمه وهنا على وهن ، وفصاله في عامين ، أن اشكر لي ولوالديك ، إلي المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفا ، واتبع سبيل من أناب إلي . ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) . .
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم ، وفي وصايا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا . ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه . فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشىء لضمان امتداد الحياة ، كما يريدها الله ؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال ، في غير تأفف ولا شكوى ؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان ! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان ! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة ! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة ، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة ! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه ، ولو وقف عمره عليهما . وهذه الصورة الموحية : ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين )ترسم ظلال هذا البذل النبيل . والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر ؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق . . روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده - بإسناده - عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? قال : " لا . ولا بزفرة واحدة " . هكذا . . ولا بزفرة . . في حمل أو في وضع ، وهي تحمله وهنا على وهن .
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول ، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ؛ ويرتب الواجبات ، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين . . ( أن اشكر لي ولوالديك ) . . ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة : ( إلي المصير )حيث ينفع رصيد الشكر المذخور .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْناً عَلَىَ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيّ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : وأمرنا الإنسان ببرّ والديه حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ يقول : ضعفا على ضعف ، وشدّة على شدّة ومنه قول زهير :
فَلَنْ يَقُولُوا بِحَبْلٍ وَاهِنٍ خَلَقٍ *** لَوْ كانَ قَوْمُكَ فِي أسْبابِه هَلَكُوا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا في المعنيّ بذلك ، فقال بعضهم : عنى به الحمل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ يقول : شدّة بعد شدّة ، وخلقا بعد خلق .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَهْنا عَلى وَهْنٍ يقول : ضعفا على ضعف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ أي جهدا على جهد .
وقال آخرون : بل عنى به : وهن الولد وضعفه على ضعف الأمّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَهْنا عَلى وَهْنٍ قال : وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها .
وقوله : وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ يقول : وفطامه في انقضاء عامين . وقيل : وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ وترك ذكر «انقضاء » اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، كما قيل : وَاسأَلِ القَرْيَةَ التي كُنّا فِيهَا يراد به أهل القرية .
وقوله : أنِ اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ يقول : وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك ، ولوالديك تربيتهما إياك ، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك . وقوله : إليّ المَصِيرُ يقول : إلى الله مصيرك أيها الإنسان ، وهو سائلك عما كان من شكرك له على نعمه عليك ، وعما كان من شكرك لوالديك ، وبرّك بهما على ما لقيا منك من العناء والمشقة في حال طفوليتك وصباك ، وما اصطنعا إليك في برّهما بك ، وتحننهما عليك .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه . ذكر الرواية الواردة في ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، قال : حلفت أمّ سعد أن لا تأكل ولا تشرب ، حتى يتحوّل سعد عن دينه . قال : فأبى عليها . فلم تزل كذلك حتى غشي عليها . قال : فأتاها بنوها فسقوها . قال : فلما أفاقت دعت الله عليه ، فنزلت هذه الاَية : وَوَصيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ . . . إلى قوله : فِي الدّنْيا مَعْرُوفا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : قالت أمّ سعد لسعد : أليس الله قد أمر بالبرّ ، فوالله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ، ثم أوجروها ، فنزلت هذه الاَية : وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن سماك بن حرب ، قال : قال سعد بن مالك : نزلت فيّ : وَإنْ جاهَدَاكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ، وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا قال : لما أسلمت ، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا ، قال : فناشدتها أوّل يوم ، فأبت وصبرت فلما كان اليوم الثاني ناشدتها ، فأبت فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت ، فقلت : والله لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا فلما رأت ذلك ، وعرفت أني لست فاعلاً أكلت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا هبيرة يقول : قال : نزلت هذه الاَية في سعد بن أبي وقاص وَإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا . . . الاَية .
هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان ، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده ، وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يُضعِّفُ أن تكون مما قالها لقمان ، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر ، بل لما فرغ من هاتين الآيتين عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار وقال أيضاً لقمان ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه ، وهذه الآية شرك{[9359]} الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما ، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل ودرجة ذكر الرضاع{[9360]} فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبر ؟ «قال : أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال ثم أباك »{[9361]} فجعل له الربع من المبرة كالآية . { وهناً على وهن } معناه ضعفاً على ضعف ، وقيل إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولاد بعده ، وقيل إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه ، ويحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف ، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره ، وقرأ عيسى الثقفي «وهَناً على وهَن » بفتح الهاء ، ورويت عن أبي عمرو وهما بمعنى واحد ، وقرأ جمهور الناس «وفصاله » ، وقرأ الحسن وأبو رجاء والجحدري ويعقوب «وفصله » ، وأشار ب «الفصال » إلى تعديد مدة الرضاع فعبر عنه بغايته ، والناس مجموع على العامين{[9362]} في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين{[9363]} لا زيادة ولا نقص ، وقالت فرقة العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم ، وقالت فرقة إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم ، وقوله تعالى : { أن اشكر } يحتمل أن يكون التقدير «بأن اشكر » ، ويحتمل أن تكون مفسرة ، وقال سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى . ومن دعا لوالديه في دبر الصلوات فقد شكرهما ، وقوله تعالى : { إليّ المصير } توعد أثناء الوصية .
إذا درجنا على أن لقمان لم يكن نبيئاً مبلغاً عن الله وإنما كان حكيماً مرشداً كان هذا الكلام اعتراضاً بين كلامي لقمان لأن صيغة هذا الكلام مصوغة على أسلوب الإبلاغ والحكاية لقول من أقوال الله . والضمائر ضمائر العظمة جرَّتْه مناسبة حكاية نهي لقمان لابنه عن الإشراك وتفظيعه بأنه ظلم عظيم . فذكر الله هذا لتأكيد ما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بتعميم النهي في الأشخاص والأحوال لئلا يتوهم متوهم أن النهي خاص بابن لقمان أو ببعض الأحوال فحكى الله أن الله أوصى بذلك كل إنسان وأن لا هوادة فيه ولو في أحرج الأحوال وهي حال مجاهدة الوالدين أولادَهم على الإشراك . وأحسن من هذه المناسبة أن تجعل مناسبة هذا الكلام أنه لما حكى وصاية لقمان لابنه بما هو شكر الله بتنزيهه عن الشرك في الإلهية بيَّن الله أنه تعالى أسبق منَّة على عباده إذ أوصى الأبناء ببر الآباء فدخل في العموم المنة على لقمان جزاءً على رعيه لحق الله في ابتداء موعظة ابنه فالله أسبق بالإحسان إلى الذين أحسنوا برَعْي حقه . ويقوي هذا التفسير اقتران شكر الله وشكر الوالدين في الأمر .
وإذا درجنا على أن لقمان كان نبيئاً فهذا الكلام مما أبلغه لقمان لابنه وهو مما أوتيه من الوحي ويكون قد حكي بالأسلوب الذي أوحي به إليه على نحو أسلوب قوله { أن اشكر لله } [ لقمان : 12 ] وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام ، ويرجحه اختلاف الأسلوب بينها وبين آيتي سورة العنكبوت وسورة الأحقاف لأن ما هنا حكاية ما سبق في أمة أخرى والأخريين خطاب أنف لهذه الأمة . وقد روي أن لقمان لما أبلغ ابنه هذا قال له : إن الله رضيني لك فلم يوصِني بك ولم يرضَك لي فأوصاكَ بي .
المقصود من هذا الكلام هو قوله { وإن جاهداك على أن تشرك بي } إلى آخره . . . وما قبله تمهيد له وتقرير لواجب بر الوالدين ليكون النهي عن طاعتهما إذا أمرا بالإشراك بالله نهياً عنه في أوْلى الحالات بالطاعة حتى يكون النهي عن الشرك فيما دون ذلك من الأحوال مفهوماً بفحوى الخطاب مع ما في ذلك من حسن الإدماج المناسب لحكمة لقمان سواء كان هذا من كلام لقمان أو كان من جانب الله تعالى .
وعلى كلا الاعتبارين لا يحسن ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن هذه الآية نزلت في قضية إسلام سعد بن أبي وقاص وامتعاض أمه ، لعدم مناسبته السياق ، ولأنه قد تقدم أن نظير هذه الآية في سورة العنكبوت نزل في ذلك ، وأنها المناسبة لسبب النزول فإنها أخلِيت عن الأوصاف التي فيها ترقيق على الأم بخلاف هذه ، ولا وجه لنزول آيتين في غرض واحد ووقت مختلف وسيجيء بيان الموصَى به .
والوهْن بسكون الهاء مصدر وَهَن يهِن من باب ضرَب . ويقال : وَهَنٌ بفتح الهاء على أنه مصدر وهِنَ يَوْهَن كوَجِلَ يَوجَل . وهو الضعف وقلة الطاقة على تحمل شيء . وانتصب { وَهْناً } على الحال من { أمّه } مبالغة في ضعفها حتى كأنها نفس الوهْن ، أي واهنة في حمله ، و { على وهن } صفة ل { وَهْناً } أي وهْناً واقعاً على وهْن ، كما يقال : رجع عوْداً على بدء ، إذا استأنف عملاً فرغ منه فرجع إليه ، أي : بعد بدء ، أو { على } بمعنى ( مع ) كما في قول الأحوص :
إني على ما قد علمِت محسَّد *** أنمي على البغضاءِ والشَنآنِ
فإن حمل المرأة يقارنه التعب من ثقل الجنين في البطن ، والضُعفُ من انعكاس دمها إلى تغذية الجنين ، ولا يزال ذلك الضعف يتزايد بامتداد زمن الحمل فلا جرم أنه وَهْن على وَهْن .
وجملة { حملته أمه وهناً على وهن } في موضع التعليل للوصاية بالوالدين قصداً لتأكيد تلك الوصاية لأن تعليل الحكم يفيده تأكيداً ، ولأن في مضمون هذه الجملة ما يثير الباعث في نفس الولد على أن يبرّ بأمه ويستتبع البرّ بأبيه . وإنما وقع تعليل الوصاية بالوالدين بذكر أحوال خاصة بأحدهما وهي الأم اكتفاء بأن تلك الحالة تقتضي الوصَاية بالأب أيضاً للقياس فإن الأب يلاقي مشاقّ وتعباً في القيام على الأم لتتمكن من الشغل بالطفل في مدة حضانته ثم هو يتولى تربيته والذبّ عنه حتى يبلغ أشدّه ويستغني عن الإسعاف كما قال تعالى { وقُلْ ربِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] ، فجمعهما في التربية في حال الصغر مما يرجع إلى حفظه وإكمال نشأته ، فلما ذكرت هنا الحالة التي تقتضي البر بالأم من الحمل والإرضاع كانت منبهة إلى ما للأب من حالة تقتضي البرَّ به على حساب ما تقتضيه تلك العلة في كليهما قوة وضعفاً . ولا يقدح في القياس التفاوت بين المقيس والمقيس عليه في قوة الوصف الموجب للإلحاق . وقد نبَّه على هذا القياس تشريكهما في التحكم عقب ذلك بقوله { أن اشكر لي ولوالديك } وقوله { وصاحبهما في الدنيا معروفاً } . وحصل من هذا النظم البديع قضاء حق الإيجاز .
وأمّا رجحان الأم في هذا الباب عند التعارض في مقتضيات البرور تعارضاً لا يمكن معه الجمع فقال ابن عطية في « تفسيره » : شرك الله في هذه الآية الأم والأب في رتبة الوصية بهما ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل ودرجة الرضاع فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل : مَن أُبِرُّ ؟ قال : أمَّك . قال : ثم مَن ؟ قال : أمَّك . قال : ثم مَن ؟ قال : أمَّك . قال : ثم مَن ؟ قال : أباك . فجعل له الربع من المبرّة . وهذا كلام منسوب مثله لابن بطّال في شرح « صحيح البخاري » . ولا يخفى أن مساق الحديث لتأكيد البر بالأم إذ قد يقع التفريط في الوفاء بالواجب للأم من الابن اعتماداً على ما يلاقيه من اللين منها بخلاف جانب الأب فإنه قوي ولأبنائه تَوَقَ من شدته عليهم ، فهذا مساق الحديث ولا معنى لأخذه على ظاهره حتى نذهب إلى تجزئة البرّ بين الأم والأب أثلاثاً أو أرباعاً وهو ما استشكله القرافي في « فائدة من الفرق الثالث والعشرين » ، وحسبنا نظم هذه الآية البديع في هذا الشأن .
وأما لفظ الحديث فهو مسوق لتأكيد البر بالأم خشية التفريط فيه . وليس معنى « ثُمَّ » فيه إلا محاكاة قول السائل « ثُمَّ مَن » بقرينة أنه عطف بها لفظ الأم في المرتين ولا معنى لتفضيل الأم على نفسها في البر . وإذ كان السياق مسوقاً للاهتمام تعين أن عطف الأب على الأم في المرة الثالثة عطف في الاهتمام فلا ينتزع منه ترجيح عند التعارض . ولعل الرسول عليه الصلاة والسلام علم من السائل إرادة الترخيص له في عدم البرّ . وقد قال مالك لرجل سأله : أن أباه في بلد السودان كتب إليه أن يقدم عليه وأن أمه منعته فقال له مالك : أطِعْ أباك ولا تعْصِ أمك{[323]} . وهذا يقتضي إعراضه عن ترجيح جانب أحد الأبوين وأنه متوقف في هذا التعارض ليحمل الابن على ترضية كليهما . وقال الليث : يرجح جانب الأم . وقال الشافعي : يرجح جانب الأب .
وجملة { وفصاله في عامين } عطف على جملة { حملتْه أمه } الخ ، فهي في موقع الحال أيضاً . وفي الجملة تقدير ضمير رابط إياها بصاحبها ، إذ التقدير : وفصالها إياه ، فلما أضيف الفصال إلى مفعوله علم أن فاعله هو الأم .
والفِصال : اسم للفطام ، فهو فصل عن الرضاعة . وتقدم في قوله { فإن أرادَا فِصالاً } في سورة البقرة ( 233 ) . وذكر الفِصال في معرض تعليل حقية الأم بالبرّ ، لأنه يستلزم الإرضاع من قبل الفِصال ، وللإشارة إلى ما تتحمله الأم من كدَر الشفقة على الرضيع حين فصاله ، وما تشاهده من حزنه وألمه في مبدأ فطامه . وذُكر لمدة فِطامه أقصاها وهو عامان لأن ذلك أنسب بالترقيق على الأم ، وأشير إلى أنه قد يكون الفطام قبل العامين بحرف الظرفية لأن الظرفية تصدق مع استيعاب المظروف جميعَ الظرف ، ولذلك فموقع في أبلغ من موقع ( من ) التبعيضية في قول سبَرة بن عمرو الفقعسي :
لأنه يصدق بأن يستغرق الشرابُ والمقامرة كامل أثمان إبله . وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى { وارزقوهم فيها واكسوهم } في سورة النساء ( 5 ) . وقد حمله علي بن أبي طالب أوْ ابن عباس على هذا المعنى فأخذ منه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر جمعاً بين هذه الآية وآية سورة الأحقاف كما سيأتي هنالك .
وجملة { أن اشكر لي ولوالديك } تفسير لفعل { وصينا . } و { أن } تفسيرية ، وإنما فُسرت الوصية بالوالدين بما فيه الأمرُ بشكر الله مع شكرهما على وجه الإدماج تمهيداً لقوله { وإن جاهداك على أن تُشْرِك بي } الخ .
وجملة { إلي المصير } استئناف للوعظ والتحذير من مخالفة ما أوصى الله به من الشكر له . وتعريف { المصير } تعريف الجنس ، أي مصير الناس كلهم . ولك أن تجعل أل عوضاً عن المضاف إليه . وتقديم المجرور للحصر ، أي ليس للأصنام مصير في شفاعة ولا غيرها .