واستجاب الله لنبيه . وقضى بالجزاء العدل على الفاسقين .
( قال : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض . فلا تأس على القوم الفاسقين )
وهكذا أسلمهم الله - وهم على أبواب الأرض المقدسة - للتيه ؛ وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم . . والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة ؛ وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل . جيل يعتبر بالدرس ، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود . . جيل غير هذا الجيل الذي أفسدة الذل والاستعباد والطغيان في مصر ، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل ! والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب .
ويتركهم السياق هنا - في التيه - لا يزيد على ذلك . . وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني ، على طريقة القرآن في التعبير .
ولقد وعى المسلمون هذا الدرس - مما قصه الله عليهم من القصص - فحين واجهوا الشدة وهم قلة أمام نفير قريش في غزوة بدر ، قالوا لنبيهم [ ص ] إذن لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم . ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون )لكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون . .
وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة ؛ وبعض جوانب حكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل . .
{ قَالَ فَإِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } . .
اختلف أهل التأويل في الناصب للأربعين ، فقال بعضهم : الناصب له قوله : مُحَرّمَةٌ وإنما حرّم الله جلّ وعزّ على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حرب الجبارين ، دخولَ مدينتهم أربعين سنة ، ثم فتحها عليهم ، وأسكنوها ، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم ، بعد أن قضيت الأربعون سنة ، وخرجوا من التيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قال لهم القوم ما قالوا ودعا موسى عليهم ، أوحى الله إلى موسى : إنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلاَ تَأْسَ على القَوْمِ الفاسِقِينَ وهو يومئذ فيما ذكر ستمائة ألف مقاتل فجعلهم فاسقين بما عصوا ، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستة ، أو دون ذلك ، يسيرون كلّ يوم جادّين لكي يخرجوا منها ، حتى يمسوا وينزلوا ، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا . وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم ، فأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم ، ينشأ الناشيء فتكون معه على هيئته . وسأل موسى ربه أن يسقيهم ، فأتى بحجر الطور ، وهو حجر أبيض ، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه فيخرج منه اثنتا عشرة عينا لكلّ سبط منهم عين ، قد علم كلّ أناس مَشْربهم . حتى إذا خلت أربعون سنة ، وكانت عذابا بما اعتدوا وعصوا ، أوحى إلى موسى أن مرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة ، فإن الله قد كفاهم عدوّهم ، وقل لهم إذا أتوا المسجد أن يأتوا الباب ويسجدوا إذا دخلوا ، ويقولوا حطة . وإنما قولهم حطة ، أن يَحُطّ عنهم خطاياهم . فأبى عامة القوم ، وعصوا ، وسجدوا على خدّهم ، وقاوا حنطة ، فقال الله جلّ ثناؤه : فَبَدّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غيرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ . . . إلى : بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ .
وقال آخرون : بل الناصب للأربعين : يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ . قالوا : ومعنى الكلام : قال : فإنها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة . قالوا : ولم يدخل مدينة الجبارين أحد ممن قال : إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا ما دَامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ، وذلك أن الله عزّ ذكره حرّمها عليهم . قالوا : وإنما دخلها من أولئك القوم : يوشع وكلاب اللذان قالا لهم : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ وأولاد الذين حرّم الله عليهم دخولها ، فتيّهم الله فلم يدخلها منهم أحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله : إنهَها مُحَرّمَةٌ عَليهِمْ قال : أبدا .
حدثنا ابن بشار قال : سليمان بن حرب قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله : يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ قال : أربعين سنة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هارون النحوي ، قال : ثني الزبير بن الخرّيت ، عن عكرمة في قوله : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ قال : التحريم لا منتهى له .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : غضب موسى على قومه ، فدعا عليهم ، فقال : ربّ إنّى لا أمْلِكُ إلاّ نَفْسِي وأخِي . . . الاَية ، فقال الله جلّ وعزّ : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فلما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى ، وأتاه قومه الذين كانوا يطيعونه ، فقال له : ما صنعت بنا يا موسى ؟ فمكثوا في التيه فلما خرجوا من التيه ، رفع المنّ والسلوى ، وأكلوا من البقول . والتقى موسى وعوج ، فوثب موسى في السماء عشرة أذرع ، وكانت عصاه عشرة أذرع ، وكان طوله عشرة أذرع ، فأصاب كعب عوج فقتله . ولم يبق ( أحد ) ممن أبى أن يدخل قرية الجبارين مع موسى إلا مات ، ولم يشهد الفتح . ثم إن الله لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيا ، فأخبرهم أنه نبيّ ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدّقوه ، فهزم الجبارين ، واقتحموا عليهم يقاتلونهم ، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما دعا موسى ، قال الله : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ قال : فدخلوا التيه ، فكلّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه . قال : فمات موسى في التيه ، ومات هارون قبله . قال : فلبثوا في تيههم أربعين سنة ، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين ، فافتتح يوشع المدينة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : فإنّها مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً حرمت عليهم ( القرى ) ، وكانوا لا يهبطون قرية ، ولا يقدرون على ذلك ، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة . وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة ، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل ، قال : لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت ، من معصيتهم نبيهم ، وهمّهم بكالب ويوشع ، إذ أمراهم بدخول مدينة الجبارين ، وقالا لهم ما قالا ، ظهرت عظمة الله بالغمام على نار فيه الرمز على كلّ بني إسرائيل ، فقال جلّ ثناؤه لموسى : إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدّقون بالاَيات كلها التي وضعت بينهم ؟ أضربهم بالموت فأهلكهم ، وأجعل لك شعبا أشدّ منهم . فقال موسى يسمع أهل المِصر الذين أخرجت هذا الشعب بقوّتك من بينهم ، ويقول ساكنو هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب ، فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد ، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك : إنما قتل هذا الشعب من أجل لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم ، فقتلهم في البرية ، ولكن لترتفع أياديك ، ويعظم جزاؤك يا ربّ كما كنت تكلمت وقلت لهم ، فإنه طويل صبرك ، كثيرة نعمك ، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق ، وإنك تحفظ الاَباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أجيال وأربعة ، فاغفر أي ربّ آثام هذا الشعب ، بكثرة نعمك ، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الاَن فقال الله جلّ ثناؤه لموسى صلى الله عليه وسلم : قد غفرت لهم بكلمتك ، ولكن قد أنى لي أنا الله ، وقد ملأَتِ الأرضَ محمدتي كلّها ، ألاّ يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفاز ، سَأَلوني عشر مرات ولم يطيعوني ، لا يرون الأرض التي خَلَقْتُ لاَبائهم ، ولا يراها من أغضبني فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي ، فإني مدخله الأرض التي دخلها ، ويراها خَلَفُه . وكان العماليق والكنعانيون جلوسا في الجبال ، ثم غدوا فارتحلوا في القفاز في طريق يحرسون ، وكلم الله عزّ وجلّ موسى وهارون ، وقال لهما : إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة السوء ؟ قد سمعت وسوسة بني إسرائيل . وقال : لأفعلنّ بكم كما قلت لكم ، ولَتُلْقَيَنّ جيفكم في هذه القفار ، وحسابكم من بني عشرين سنة فما فوق ذلك من أجل أنكم وسوستم عليّ ، فلا تدخلوا الأرض التي دفعت إليها ، ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون ، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة . وأما بنوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشرّ ، فإنهم يدخلون الأرض ، وإني بهم عارف لهم الأرض التي أردت لهم وتسقط جيفكم في هذه القفار ، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيام التي جسستم الأرض أربعين يوما مكان كلّ يوم سنة وتُقتلون بخطاياكم أربعين سنة ، وتعلمون أنكم وسوستم : قد أنى لي أنا الله فاعل بهذه الجماعة ، جماعة بني إسرائيل ، الذين وُعِدوا بأن يُتيّهوا في القفار ، فيها يموتون فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم يتجسسون الأرض ، ثم حرّشوا الجماعة ، فأفشوا فيهم خبر الشرّ ، فماتوا كلهم بغتة ، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض . فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كله لبني إسرائيل ، حزن الشعب حزنا شديدا ، وغدوا فارتفعوا على رأس الجبل ، وقالوا : نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه من أجل أنا قد أخطأنا . فقال لهم موسى : لم تَعْتَدُون في كلام الله من أجل ذلك ، لا يصلح لكم عمل ، ولا تصعدوا من أجل أن الله ليس معكم ، فالاَن تنكسرون من قدام أعدائكم من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم ، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله فلم يكن الله معكم فأخذوا يرقون في الجبل ، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جلّ ذكره وموسى من المحلة يعني من الحكمة ، حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط ، فحرّقوهم وطردوهم وقتلوهم . فتيّهم الله عزّ ذكره في التيه أربعين سنة بالمعصية ، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك . قال : فلما شبّ النواشيء من ذراريهم ، وهلك آباؤهم ، وانقضت الأربعون سنة التي تتيهوا فيها وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون ، وكان لهما صهرا قدم يوشع بن نون إلى أريحاء في بني إسرائيل ، فدخلها بهم ، وقتل الجبابرة الذين كانوا فيها ، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل ، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم ، ثم قبضه الله إليه لا يعلم قبره أحد من الخلائق .
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : إن الأربعين منصوبة بالتحريم ، وإن قوله : مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً معنيّ به جميع قوم موسى لا بعض دون بعض منهم لأن الله عزّ ذكره عمّ بذلك القوم ، ولم يخصصص منهم بعضا دون بعض . وقد وفى الله بما وعدهم به من العقوبة ، فتيههم أربعين سنة ، وحرّم على جميعهم في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين دخول الأرض المقدسة ، فلم يدخلها منهم أحد ، لا صغير ولا كبير ولا صالح ولا طالح ، حتى انقضت السنون التي حرّم الله عزّ وجلّ عليهم فيها دخولها . ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخولها مع نبيّ الله موسى ، والرجلين اللذين أنعم الله عليهما . وافتتح قرية الجبارين إن شاء الله نبيّ الله موسى صلى الله عليه وسلم وعلى مقدمته يوشع ، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوّلين أن عوج بن عنق قتله موسى صلى الله عليه وسلم ، فلو كان قتله إياه قبل مصيره في التيه وهو من أعظم الجبارين خلقا لم تكن بنو إسرائيل تجزع من الجبارين الجزع الذي ظهر منها ، ولكن ذلك كان إن شاء الله بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها وأبت الدخول على الجبارين مدينتهم . وبعد : فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بعلم بن باعوراء كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى ومحال أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم ، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبا ، فأما ولا طالب فلا وجه للحاجة إليها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نوف ، قال : كان سرير عوج ثمانمائة ذراع ، وكان طول موسى عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب عوجا فأصاب كعبه ، فسقط ميتا ، فكان جسرا للناس يمرّون عليه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ووثبته عشرة أذرع وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله ، فكان جسرا لأهل النيل سنة .
ومعنى : يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ : يحارون فيها ويضلون ، ومن ذلك قيل للرجل الضالّ عن سبيل الحقّ تائه . وكان تيههم ذلك أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كلّ سنة يوم جادّين في قدر سته فراسخ للخروج منه ، فيمسون في الموضع الذي ابتدءوا السير منه .
حدثني بذلك المثنى ، قال : ثنا ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة ، يُصْبحون حيث أمسوا ، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم .
القول في تأويل قوله : فَلا تَأْسَ على القَوْمِ الفاسِقِينَ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : فَلاَ تَأْسَ : فلا تحزن ، يقال منه : أَسِيَ فلان على كذا يَأْسَى أَسًى ، وقد أسيت من كذا : أي حزنت ، ومنه قول امرىء القيس :
وُقُوفا بِها صَحْبِي عليّ مَطِيّهُمْ ***يقُولُونَ لا تَهْلِكْ أسًى وتَجَمّلِ
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَلا تَأْسَ يقول : فلا تحزن .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَلا تَأْسَ على القَوْمِ الفاسِقينَ قال : لما ضرب عليهم التيه ، ندم موسى صلى الله عليه وسلم . فلما ندم أوحى الله إليه : فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الفاسِقِينَ : لا تحزن على القوم الذين سميتهُم فاسقين .
{ قال فإنها محرمة } المعنى قال الله ، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازاً لدلالة معنى الكلام على المراد ، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة { أربعين سنة } وتركهم خلالها { يتيهون في الأرض } أي في أرض تلك النازلة ، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلاً في عرض ستة فراسخ ، وهو ما بين مصر والشام ، ويروى أنه اتفق أن مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبداً ، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث ، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف في هاذا ، وروي أن «موسى » عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام ، وقيل بستة أشهر ونصف ، وأن يوشع نبيء بعد كمال «الأربعين سنة » وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة ، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين{[4506]} ، وروي أن «موسى » عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته ، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق ، يقال كان في طول «موسى » عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع ، وترامى من الأرض في السماء عشرة أذرع ، وحينئذ لحق كعَب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعاً ، ويروى أن عوجاً اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهداً بحجر الماس فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج ، وضربه «موسى » فمات ، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع ، وحكي عن ابن عباس أنه قال : لما خر كان جسراً على النيل سنة .
قال القاضي أبو محمد : والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم ، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى » وهارون لم يكونا في التيه ، والعامل في { أربعين } يحتمل أن يكون { محرمة } ، أي حرمت عليهم { أربعين سنة ويتيهون في الأرض } هذه المدة ثم تفتح عليهم ، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات . وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل { محرمة } ، وذلك منه تحامل ، ويحتمل أن يكون العامل { يتيهون } مضمراً يدل عليه { يتيهون } المتأخر ، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبداً ، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة » يموت فيها من مات .
قال القاضي أبو محمد : كأنه لم يعش المكلفون ، أشار إلى ذلك الزجاج ، والتيه : الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم{[4507]} ، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير ، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل ، وقال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا ، وذلك في مقدار ستة فراسخ .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي ، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة » . فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص ، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع ، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر . والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى ، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم ، وقد مضى ذلك في سورة البقرة . وقوله تعالى : { فلا تأس على القوم الفاسقين } معناه فلا تحزن يقال أسى : الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرىء القيس :
وقوفاً بها صحبي عليَّ مطيهم . . . يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى . . . دعوني فهذا كله قبر مالك
والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام ، قال ابن عباس ندم «موسى » على دعائه على قومه وحزن عليهم ، فقال له الله : { فلا تأس على القوم الفاسقين } وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد صلى الله عليه وسلم ويراد ب { الفاسقين } معاصروه ، أي هذه أفعال اسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك ، وردهم عليك ، فإنه سجية خبيثة موروثة عندهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في الناصب للأربعين؛
فقال بعضهم: الناصب له قوله:"مُحَرّمَةٌ"، وإنما حرّم الله جلّ وعزّ على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حرب الجبارين، دخولَ مدينتهم أربعين سنة، ثم فتحها عليهم، وأسكنوها، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن قضيت الأربعون سنة، وخرجوا من التيه...
وقال آخرون: بل الناصب للأربعين: "يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ". قالوا: ومعنى الكلام: قال: فإنها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخل مدينة الجبارين أحد ممن قال: "إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا ما دَامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ"، وذلك أن الله عزّ ذكره حرّمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم: يوشع وكلاب اللذان قالا لهم: "ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ البابَ فإذَا دَخَلْتُمُوهُ فإنّكُمْ غالِبُونَ "وأولاد الذين حرّم الله عليهم دخولها، فتيّههم الله فلم يدخلها منهم أحد...
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن الأربعين منصوبة بالتحريم، وإن قوله: مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً معنيّ به جميع قوم موسى لا بعض دون بعض منهم لأن الله عزّ ذكره عمّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض. وقد وفى الله بما وعدهم به من العقوبة، فتيههم أربعين سنة، وحرّم على جميعهم في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين دخول الأرض المقدسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرّم الله عزّ وجلّ عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخولها مع نبيّ الله موسى، والرجلين اللذين أنعم الله عليهما...
"يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ": يحارون فيها ويضلون، ومن ذلك قيل للرجل الضالّ عن سبيل الحقّ تائه. وكان تيههم ذلك أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كلّ يوم جادّين في قدر سته فراسخ للخروج منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه.
"فَلا تَأْسَ على القَوْمِ الفاسِقِينَ": فَلاَ تَأْسَ: فلا تحزن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{محرمة عليهم} من الحرمان والمنع هو، والله أعلم، ليس على التحريم كقوله تعالى: {وحرمنا عليهم المراضع من قبل} [القصص: 12] ليس هو من التحريم الذي هو تحريم حكم، ولكن من المنع والحرمان. فعلى ذلك الأول، والله أعلم. وقال قائلون {فإنها محرمة عليهم} أبدا، لم يدخلوها حتى ماتوا، لكن ولد لهم أولاد، فلما ماتوا دخل أولادهم لأنهم قالوا: {لن ندخلها أبدا}. وقال قائلون: قوله تعالى: {محرمة عليهم} أي التوبة محرمة عليهم؛ لن يتوبوا أبدا، والله أعلم...
ثم اختلف في التيه: قال قائلون: لم يكن موسى وهارون عليهما السلام معهم في التيه لأن ذلك لهم من الله كان عقوبة، ولا يحتمل أن يكون الله تعالى عز وجل يعذب رسوله بذنب قومه لأنه لم يعذب قوما بتكذيب الرسول قط إلا بعدما أخرج الرسول من بين أظهرهم. فعلى ذلك لا يحتمل أن يكون موسى يعذب بعصيان قومه، والله أعلم. وقال آخرون: كان موسى معهم في الأرض مقيما، فيها ولكن الحيرة والتيه كانت لقومه؛ كانوا يرتحلون، ثم ينزلون من [حيث] أصبحوا أربعين سنة، وكان مأواهم [الحجر] الذي كان مع موسى، كان إذا نزل ضربه موسى بعصاه {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} [البقرة: 60] لكل سبط عين، ولم يكن حل [بموسى ما كان حل] بقومه قليل ولا كثير. إنما أمر بالمقام فيها من غير أن كان به حيرة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وأصل التيه: التحير الذي لا يهتدى لأجله للخروج عن الطريق إلى الغرض المقصود. وأصله الحيرة. يقال: تاه يتيه تيها: إذا تحير. وتيهته، وتوهته، والياء أكثر. والتيهاء -من الأرض- هي التي لا يهتدى فيها. يقال: أرض تيه وتيهاء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِنَّهَا} فإن الأرض المقدسة {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} لا يدخلونها ولا يملكونها.
فإن قلت: كيف يوفق بين هذا وبين قوله: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلمَّا أبوا الجهاد قيل: فإنها محرّمة عليهم. والثاني: أن يراد فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة، فإذا مضت الأربعون كان ما كتب، فقد روي أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض صلوات الله عليه. وقيل: لما مات موسى بعث يوشع نبياً، فأخبرهم بأنه نبيّ الله، وأن الله أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل. وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: {إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} وهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذرّياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها... ومعنى {يَتِيهُونَ فِي الأرض} يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً.
والتيه: المفازة التي يتاه فيها... {فَلاَ تَأْسَ} فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم، فقيل: إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب، فلا تحزن ولا تندم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{قال فإنها محرمة} المعنى قال الله، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازاً لدلالة معنى الكلام على المراد،...
ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة». فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
نقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب، وهي:
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخلقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلت إليك ليقتحم فيها، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة فقال: (مثلي ومثلكم كمثالي رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، ويجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها) رواه الشيخان.
أفسد ظلم الفراعنة فطرة بني إسرائيل في مصر، وطبع عليها بطابع المهانة والذل وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع، أو كلفوا أمرا يشق عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصر ويحنون إلى العودة إليها، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه! لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين واعظام معبودهم العجل (أبيس) وكان الله تعالى يعلم إنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيل جديد في حربة البداوة، وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم، حتى يبين لهم حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، جعلهم هم الأئمة والوارثين، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسننه وشريعته المنزلة عليهم – فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى بعد ما جاءهم بالبينات، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة.
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء. الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هاد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرة عن قلوب لا صبر فيها ولا ثبات، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء، وعدم الاستعباد، والذل المانع من السعادة. ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق، خصوصا قومه، وأنه ربما رق لهم، واحتملته الشفقة على الحزن عليهم في هذه العقوبة، أو الدعاء لهم بزوالها، مع أن الله قد حتمها، قال: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي: لا تأسف عليهم ولا تحزن، فإنهم قد فسقوا، وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم لا ظلما منا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
واستجاب الله لنبيه. وقضى بالجزاء العدل على الفاسقين. (قال: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. فلا تأس على القوم الفاسقين) وهكذا أسلمهم الله -وهم على أبواب الأرض المقدسة- للتيه؛ وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم.. والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة؛ وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل. جيل يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود.. جيل غير هذا الجيل الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل! والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب. ويتركهم السياق هنا -في التيه- لا يزيد على ذلك.. وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني، على طريقة القرآن في التعبير.
ولقد وعى المسلمون هذا الدرس -مما قصه الله عليهم من القصص- فحين واجهوا الشدة وهم قلة أمام نفير قريش في غزوة بدر، قالوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم إذن لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيهم. (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) لكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون.. وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة؛ وبعض جوانب حكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله الله تعالى له: {فإنّها محرّمة عليهم أربعين سنة} الخ جواب عن قول موسى {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}، وهو جواب جامع لجميع ما تضمّنه كلام موسى، لأنّ الله أعلم موسى بالعقاب الذي يصيب به الّذين عصوا أمره، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعمّ الجميع، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصاراً لموسى. فإن قلت: هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومَه، فإنّه بقي معهم في التِيه حتّى توفّي. قلت: كان ذلك هَيِّناً على موسى لأنّ بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصّيصة رسالته، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة، أمَّا هم فكانوا في مشقّة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...والمعنى: أنهم إذا كانت حالهم كذلك من الخور وضعف العزيمة والخوف من أعدائهم فإنهم لا يدخلون الآن لضعف بأسهم وشكيمتهم، فإنها محرمة عليهم تحريما واقعيا، لا تحريما حكميا تكليفيا يتيهون في الأرض أي يكونون في الأرض تائهين متحيرين يضطرب عيشهم وحياتهم ولا يستقر مقامهم بل يعيشون فرادى هائمين على وجوههم حتى يتربى البأس في قلوبهم. هذا خلاصة معنى النص الكريم وهو يدل على أن الله تعالى بسنته التي سنها سبحانه وتعالى في الكون لا يمكنهم من أن يدخلوها إلا إذا غيروا وبدلوا حالهم من بعد الضعف قوة ومن بعد الخور عزيمة: {...إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} (الرعد 11).
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
... من كتاب الله تتحدث الآيات الكريمة بالأخص عن ثلاثة أمور أساسية لا يقوم مجتمع سليم آمن ومطمئن بدون حفظ لها، وذب عنها، وصيانتها من كل اعتداء، ألا وهي أمن الأرواح وأمن الأموال وأمن الطرق، كما تتحدث عن موقف بني إسرائيل من الأرض المقدسة وتحريمها عليهم، جزاء خذلانهم لنبيهم موسى عليه السلام، وعن نفيهم في التيه وابتلائهم فيه مدة أربعين سنة {قال فإنها محرمة عليهم، أربعين سنة يتيهون في الأرض}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرضِ} فلا يملكون دخول الأرض المقدسة، لأنَّهم هم الَّذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وسيتحملون متاعب الضياع وأهواله، وسيعيشون آلام الاهتزاز ومشاكله. وذلك هو مصيرهم الَّذي استحقوه نتيجة فسقهم العملي، فلا تتألم يا موسى من موقع الرحمة في قلبك، فإنَّ هؤلاء لا يستحقون الرحمة، {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.