( قالوا : حرقوه )ولكن كلمة أخرى قد قيلت . . فأبطلت كل قول ، وأحبطت كل كيد . ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد :
( قلنا : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) . .
فكانت بردا وسلاما على إبراهيم . .
ولماذا نسأل عن هذه وحدها . و( كوني )هذه هي الكلمة التي تكون بها أكوان ، وتنشأ بها عوالم ، وتخلق بها نواميس : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ) .
فلا نسأل : كيف لم تحرق النار إبراهيم ، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية ? فالذي قال للنار : كوني حارقة . هو الذي قال لها : كوني بردا وسلاما . وهي الكلمة الواحدة التي تنشيء مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول . مألوفا للبشر أو غير مألوف .
إن الذين يقيسون أعمال الله سبحانه إلى أعمال البشر هم الذين يسألون : كيف كان هذا ? وكيف أمكن أن يكون ? فأما الذين يدركون اختلاف الطبيعتين ، واختلاف الأداتين ، فإنهم لا يسألون أصلا ، ولا يحاولون أن يخلقوا تعليلا . علميا أو غير علمي . فالمسألة ليست في هذا الميدان أصلا . ليست في ميدان التعليل والتحليل بموازين البشر ومقاييس البشر . وكل منهج في تصور مثل هذه المعجزات غير منهج الإحالة إلى القدرة المطلقة هو منهج فاسد من أساسه ، لأن أعمال الله غير خاضعة لمقاييس البشر وعلمهم القليل المحدود .
إن علينا فقط أن نؤمن بأن هذا قد كان ، لأن صانعه يملك أن يكون . أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام ? وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار . . فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود . وليس لنا سوى النص القرآني من دليل .
وما كان تحويل النار بردا وسلاما على إبراهيم إلا مثلا تقع نظائره في صور شتى . ولكنها قد لا تهز المشاعر كما يهزها هذا المثل السافر الجاهر . فكم من ضيقات وكربات تحيط بالأشخاص والجماعات من شأنها أن تكون القاصمة القاضية ، وإن هي إلا لفتة صغيرة ، فإذا هي تحيي ولا تميت ، وتنعش ولا تخمد ، وتعود بالخير وهي الشر المستطير .
إن ( يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم )لتتكرر في حياة الأشخاص والجماعات والأمم ؛ وفي حياة الأفكار والعقائد والدعوات . وإن هي إلا رمز للكلمة التي تبطل كل قول ، وتحيط كل كيد ، لأنها الكلمة العليا التي لا ترد !
وقوله : قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاما عَلى إبْرَاهِيمَ في الكلام متروك اجتزىء بدلالة ما ذكر عليه منه ، وهو : فأوقدوا له نارا ليحرّقوه ثم ألقوه فيها ، فقلنا للنار : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وذُكر أنهم لما أرادوا إحراقه بنوا له بنيانا كما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانا فألْقُوهُ في الجَحِيمِ قال : فحبسوه في بيت ، وجمعوا له حطبا ، حتى إن كانتِ المرأة لتمرضُ فتقول : لئن عافاني الله لأجمعنّ حطبا لإبراهيم فلما جمعوا له ، وأكثروا من الحطب حتى إن الطير لتمرّ بها فتحترق من شدّة وهجها ، فعمدوا إليه فرفعوه على رأس البنيان ، فرفع إبراهيم صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء ، فقالت السماء والأرض والجبال والملائكة : ربنا ، إبراهيم يحرق فيك فقال : أنا أعلم به ، وإن دعاكم فأغيثوه وقال إبراهيم حين رفع رأسه إلى السماء : اللهمّ أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل فقذفوه في النار ، فناداها فقال : يا نارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاما على إبْرَاهِيمَ فكان جبريل عليه السلام هو الذي ناداها . وقال ابن عباس : لو لم يُتبع بردها سلاما لما مات إبراهيم من شدّة بردها ، فلم يبق يومئذ نار في الأرض إلا طفئت ، ظنت أنها هي تُعْنَى . فلما طُفئت النار نظروا إلى إبراهيم ، فإذا هو رجل آخر معه ، وإذا رأس إبراهيم في حجره يمسح عن وجهه العرق وذكر أن ذلك الرجل هو ملك الظلّ . وأنزل الله نارا فأنتفع بها بنو آدم ، وأخرجوا إبراهيم ، فأدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه .
حدثني إبراهيم بن المقدام أبو الأشعث ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي ، قال : حدثنا قَتادة ، عن أبي سليمان ، عن كعب ، قال : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاما عَلى إبْرَاهِيمَ قال : ذُكر لنا أن كعبا كان يقول : ما انتفع بها يومئذ أحد من الناس . وكان كعب يقول : ما أحرقت النار يومئذ إلا وثاقه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن شيخ ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله : يا نارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاما عَلى إبْرَاهِيمَ قال : بردت عليه حتى كادت تقتله ، حتى قيل : «وسلاما » ، قال : لا تضرّيه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن المنهال بن عمرو ، قال : قال إبراهيم خليل الله : ما كنت أياما قطّ أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : لمّا ألقي إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم في النار ، قال المَلَكُ خازن المطر : ربّ خليلك إبراهيم رجا أن يؤذن له فيرسل المطر . قال : فكان أمر الله أسرع من ذلك فقال : يا نارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاما عَلى إبْرَاهِيمَ فلم يبق في الأرض نار إلا طُفئت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الحرث ، عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة ، قال : إن أحسن شيء قاله أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار ، وجده يرشح جبينه ، فقال عند ذلك : نِعْمَ الربّ ربّك يا إبراهيم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبَيِء ، قال : أُلقي إبراهيم في النار وهو ابن ستّ عشرة سنة ، وذُبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارّة وهي ابنة تسعين سنة ، وكان مذبحه من بيت إيلياء على ميلين ، ولما علمت سارّة بما أراد بإسحاق بُطِنت يومين ، وماتت اليوم الثالث . قال ابن جُرَيج : قال كعب الأحبار : ما أحرقت النار من إبراهيم شيئا غير وثاقه الذي أوثقوه به .
حدثنا الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان التيمي ، عن بعض أصحابه قال : جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام وهو يوثق أو يقمّط ليلقى في النار ، قال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أمّا إليك فلا .
قال : حدثنا معتمر ، قال : حدثنا ابن كعب ، عن أرقم : أن إبراهيم قال حين جعلوا يوثقونه ليلقوه في النار : لا إله إلا أنت سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ، ولك الملك لا شريك لك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاما عَلى إبْرَاهِيمَ قال : السلام لا يؤذيه بردها ، ولولا أنه قال : «وسلاما » لكان البرد أشدّ عليه من الحرّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : بَرْدا قال : بردت عليه وَسَلاما لا تؤذيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاما عَلى إبْرَاهِيمَ قال : قال كعب : ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ، ولا أحرقت النار يومئذ شيئا إلا وثاق إبراهيم .
وقال قتادة : لم تأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوزغ .
وقال الزهري : أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله ، وسماه فُوَيسقا .
وقد قيل لها { كوني برداً وسلاماً } فاحترق الحبل الذي ربط به فقط .
وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقال له ألك حاجة فيروى أنه قال أما إليك فعلا .
ويروى أنه قال إني خليل وإنما أطلب حاجتي من خليلي لا من رسوله فقال الله تعالى : يا إبراهيم قطعت الواسطة بيني وبينك لأقطعنها بيني وبين النار ، يا نار .
وروي أنه حين خوطبت النار خمدت كل نار في الأرض .
وروي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار إبراهيم .
وروي أن الوزغة{[3]} كانت تنفخ عليه لتضرم وكذلك البغل .
وروي أن العضرفوط والخطافة{[4]} والضفدع كانوا ينقلون الماء لتطفأ النار فأبقى الله على هذه الوقاية وسلط الله على تلك الأخرى النوائب والأيدي وقال بعض العلماء إن الله تعالى لو لم يقل { وسلاماً } لهلك إبراهيم من برد النار .
قال القاضي أبو محمد : وقد أكثر الناس في قصص حرق إبراهيم وذكروا تحديد مدة بقائه في النار وصورة بقائه ما رأيت اختصاره لقلة صحته ، والصحيح من ذلك أنه ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه { برداً وسلاماً } فخرج منها سالماً وكانت أعظم آية .
وروي انهم قالوا إنها نار مسحورة لا تحرق فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق .
وروي أن العيدان أينعت وأثمرت له هنالك ثمارها التي كانت أُصولها ، وقوله { وسلاماً } معناه وسلامة ، وقال بعضهم هي تحية من الله تعالى لإبراهيم ( ع ) : وهذا ضعيف وكان الوجه أن يكون مرفوعاً .