في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (88)

59

ويصاحب الفزع الانقلاب الكوني العام الذي تختل فيه الأفلاك ، وتضطرب دورتها . ومن مظاهر هذا الاضطراب أن تسير الجبال الراسية ، وتمر كأنها السحاب في خفته وسرعته وتناثره . ومشهد الجبال هكذا يتناسق مع ظل الفزع ، ويتجلى الفزع فيه ؛ وكأنما الجبال مذعورة مع المذعورين ، مفزوعة مع المفزوعين ، هائمة مع الهائمين الحائرين المنطلقين بلا وجهة ولا قرار !

( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) .

سبحانه ! يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود . فلا فلتة ولا مصادفة ولا ثغرة ولا نقص ، ولا تفاوت ولا نسيان . ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة ، فلا يعثر على خلة واحدة متروكة بلا تقدير ولا حساب . في الصغير والكبير ، والجليل والحقير . فكل شيء بتدبير وتقدير ، يدير الرؤوس التي تتابعه وتتملاه .

( إنه خبير بما تفعلون ) . .

وهذا يوم الحساب عما تفعلون . قدره الله الذي اتقن كل شيء . وجاء به في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر ؛ ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير ؛ وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين ، ( صنع الله الذي أتقن كل شيء . إنه خبير بما تفعلون ) .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (88)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِيَ أَتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وَتَرى الجِبَالَ يا محمد تَحْسَبُها قائمة وَهِيَ تَمُرُ .

كالذي حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَرَى الجبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً يقول : قائمة ، وإنما قيل : وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحابِ لأنها تجمع ثم تسير ، فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة ، وهي تسير سيرا حثيثا ، كما قال الجعدي :

بأرْعَنَ مِثْلِ الطّوْدِ تَحْسِبُ أنّهُمْ *** وُقُوفٌ لِحاجٍ والرّكابُ تُهَمْلجُ

قوله : صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ وأوثق خلقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : صُنْعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ يقول : أحكم كلّ شيء .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : صُنعَ اللّهِ الّذِي أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ يقول : أحسن كلّ شيء خلقه وأوثقه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الّذِين أتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ قال : أوثق كلّ شيء وسوّى .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد أتْقَنَ أوثق .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إنّهُ خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلونَ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشرّ وطاعة له ومعصية ، وهو مجازي جميعهم على جميع ذلك على الخير الخيرَ ، وعلى الشرّ الشرّ نظيره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَتَرَى ٱلۡجِبَالَ تَحۡسَبُهَا جَامِدَةٗ وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِۚ صُنۡعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيٓ أَتۡقَنَ كُلَّ شَيۡءٍۚ إِنَّهُۥ خَبِيرُۢ بِمَا تَفۡعَلُونَ} (88)

هذا وصف حال الأشياء يوم القيامة عقب النفخ في الصور ، و «الرؤية » هي بالعين{[9091]} وهذه الحال ل { الجبال } هي في أول الأمر تسير وتموج وأمر الله تعالى ينسفها ويفتها خلال ذلك فتصير كالعهن ، ثم تصير في آخر الأمد هباء منبثاً ، و «الجمود » : التصاُّم في الجوهر ، قال ابن عباس { جامدة } قائمة ، ونظيره قول الشاعر [ النابغة ] : [ الطويل ]

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم . . . وقوف لحاج والركاب تهملج{[9092]}

و { صنع الله } مصدر معرف والعامل فيه فعل مضمر من لفظه ، وقيل هو نصب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله{[9093]} ، و «الإتقان » الإحسان في المعمولات وأن تكون حساناً وثيقة القوة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «يفعلون » بالياء وقرأ الباقون «تفعلون » بالتاء على الخطاب .


[9091]:ولو كانت من رؤية القلب لتعدت إلى مفعولين.
[9092]:البيت للنابغة الجعدي، وهو في وصف جيش، والأرعن: المضطرب لكثرته مع حركته، وقيل: شبهه بالجبل الضخم ذي الرعان، وهي الفضول والنتوءات البارزة بعنف من الجبل، والأنف العظيم المتقدم من الجبل يسمى رعن. والطود: الجبل العظيم، وتحسب: من القياس، والحاج: جمع حاجة، وتهملج: تمشي الهملجة، وهي سير سريع حسن، والشاهد أنك ترى الشيء الضخم العظيم ساكنا وهو يتحرك، يخيل إليك أن السفينة الكبيرة في البحر واقفة مع أنها تتحرك،و كذلك الجيش الضخم بعدده وسلاحه. والضمير في "أنهم" للجنود في الجيش.
[9093]:القول الأول هو قول الخليل وسيبويه، وذلك لأن الله تعالى لما قال: {وهي تمر مر السحاب} دل على أنه سبحانه قد صنع ذلك صنعا، وعلى هذا الرأي لا يوقف على [السحاب] وعلى الرأي الثاني وهو النصب على الإغراء يجوز أن تقف على [السحاب]، ويجوز الرفع على تقدير: ذلك صنع الله، ذكر ذلك القرطبي، وأكد الزمخشري رأي سيبويه فقال/ {صنع الله} من المصادر المؤكدة، كقوله: {وعد الله} و {صبغة الله} إلا أن المؤكد محذوف.