في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

36

ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش ، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات :

وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه : أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه ؛ وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا . وكان أمر الله مفعولا . ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له . سنة الله في الذين خلوا من قبل . وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله . وكفى بالله حسيبا . ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وكان الله بكل شيء عليما . .

مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني ؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم ، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي : وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ، وكان الله غفورا رحيما . . . .

ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية ؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته . فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرا في النفوس . ولا بد من سوابق عملية مضادة . ولا بد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار ؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين .

وقد مضى أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زوج زيد بن حارثة - الذي كان متبناه ، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعى إلى أبيه - من زينب بنت جحش ، ابنة عمة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة ، ويحقق معنى قوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي .

ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك - فيما يحمل من أعباء الرسالة - مؤنة إزالة آثار نظام التبني ؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة . ويواجه المجتمع بهذا العمل ، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به ، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها !

وألهم الله نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن زيدا سيطلق زينب ؛ وأنه هو سيتزوجها ، للحكمة التي قضى الله بها . وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت ، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلا .

وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اضطراب حياته مع زينب ؛ وعدم استطاعته المضي معها . والرسول - صلوات الله وسلامه عليه - على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية - يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب ؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق ؛ فيقول لزيد [ الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له ، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء . والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب ] . . يقول له : ( أمسك عليك زوجك واتق الله ) . . ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس . كما قال الله تعالى : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ! ) . . وهذا الذي أخفاه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في نفسه ، وهو يعلم أن الله مبديه ، هو ما ألهمه الله أن سيفعله . ولم يكن أمرا صريحا من الله . وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله . ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه . ولكنه [ صلى الله عليه وسلم ] كان أمام إلهام يجده في نفسه ، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته ، ومواجهة الناس به . حتى أذن الله بكونه . فطلق زيد زوجه في النهاية . وهو لا يفكر لا هو ولا زينب ، فيما سيكون بعد . لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له . حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها . ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء . إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة . بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار .

وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث ؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديما وحديثا ، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات !

إنما كان الأمر كما قال الله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ، لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) . . وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما حمل ؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية . حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد ، وذم الآلهة والشركاء ؛ وتخطئة الآباء والأجداد !

( وكان أمر الله مفعولا ) . . لا مرد له ، ولا مفر منه . واقعا محققا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه . وكان زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - بعد انقضاء عدتها . أرسل إليها زيدا زوجها السابق . وأحب خلق الله إليه . أرسله إليها ليخطبها عليه .

عن أنس - رضي الله عنه - قال : لما انقضت عدة زينب - رضي الله عنها - قال رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] لزيد بن حارثة . " اذهب فاذكرها علي " فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها . قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، وأقول : إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ذكرها ! فوليتها ظهري ، ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب . أبشري . أرسلني رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بذكرك . قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عز وجل . فقامت إلى مسجدها . ونزل القرآن . وجاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فدخل عليها بغير إذن . . .

وقد روى البخاري - رحمه الله - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : إن زينب بنت جحش - رضي الله عنها - كانت تفخر على أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله - تعالى - من فوق سبع سماوات .

ولم تمر المسألة سهلة ، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله ؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول : تزوج حليلة ابنه !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً } .

يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عتابا من الله له وَ اذكر يا محمد إذْ تَقُولُ لِلّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ بالهِداية وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعِتق ، يعني زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهِ ، وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذُكر رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبته ، وهي في حبال مولاه ، فألِقي في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع ، فأراد فراقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم زيد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وهو صلى الله عليه وسلم يحبّ أن تكون قد بانت منه لينكحها ، وَاتّقِ اللّهَ وخَفِ الله في الواجب له عليك في زوجتك وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ يقول : وتخفي في نفسك محبة فراقه إياها لتتزوّجها إن هو فارقها ، والله مبد ما تخفي في نفسك من ذلك وتَخْشَى النّاسَ واللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ يقول تعالى ذكره : وتخاف أن يقول الناس : أمر رجلاً بطلاق امرأته ونكحها حين طلّقها ، والله أحقّ أن تخشاه من الناس .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وهو زيد أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ قال : وكان يخفي في نفسه ودّ أنه طلقها . قال الحسن : ما أنزلت عليه آية كانت أشدّ عليه منها قوله : وتُخْفِي في نفسك ما اللّهُ مُبْدِيهِ ولو كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتمها وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ قال : خشِي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم مقالة الناس .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، ابنة عمته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يريده وعلى الباب ستر من شعر ، فرفعت الريح الستر فانكشف ، وهي في حجرتها حاسرة ، فوقع إعجابها في قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما وقع ذلك كرّهت إلى الاَخر ، فجاء فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أفارق صاحبتي ، قال : «ما لَكَ ، أرَابَكَ مِنْها شَيْءٌ ؟ » قال : لا ، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ، ولا رأيت إلا خيرا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ » ، فذلك قول الله تعالى : وَإذْ تَقُولُ للّذِي أنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وأنْعَمْتَ عَلَيْهِ أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ تخفي في نفسك إن فارقها تزوّجتها .

حدثني محمد بن موسى الجرشي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي حمزة ، قال : نزلت هذه الاَية : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيه في زينب بنت جحش .

حدثنا خلاد بن أسلم ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عليّ بن زيد بن جدعان ، عن عليّ بن حسين ، قال : كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما أتاه زيد يشكوها قال : اتّقِ اللّهَ وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، قال الله : وتُخْفِي في نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْديهِ .

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة ، قالت : لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم : وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ما اللّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أحَقّ أنْ تَخْشاهُ .

وقوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا زَوّجْناكَها يقول تعالى ذكره : فلما قضى زيد بن حارثة من زينب حاجته ، وهي الوطر ومنه قول الشاعر :

وَدّعَنِيِ قَبْلَ أن أُوَدّعَهُ *** لَمّا قَضَى منْ شَبَابِنا وَطَرَا

زَوّجْناكَها يقول : زوّجناك زينب بعد ما طلقها زيد وبانت منه لكَيْلا يَكُونَ على المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ يعني : في نكاح نساء من تَبَنّوا وليسوا ببنيهم ولا أولادهم على صحة إذا هم طلقوهنّ وبنّ منهم إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا قضوا منهنّ حاجاتهم ، وآرابهم وفارقوهنّ وحَلَلْن لغيرهم ، ولم يكن ذلك نزولاً منهم لهم عنهنّ وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً يقول : وكان ما قضى الله من قضاء مفعولاً : أي كائنا كان لا محالة . وإنما يعني بذلك أن قضاء الله في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ماضيا مفعولاً كائنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لِكَيْلا يَكُونَ عَلى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أزْوَاجِ أدْعِيائهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ وَطَرا يقول : إذا طلّقوهنّ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبَنىّ زيد بن حارثة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْها وَطَرا . . . إلى قوله : وكانَ أمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً إذا كان ذلك منه غير نازل لك ، فذلك قول الله : وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ .

حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جحش ، قال : تفاخرت عائشة وزينب ، قال : فقالت زينب : أنا الذي نزل تزويجي .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : كانت زينب زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم تقول للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إني لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهنّ . إن جدّي وجدّك واحد ، وإني أنكحنيك الله من السماء ، وإن السفير لجبرائيلُ عليه السلام .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ تَقُولُ لِلَّذِيٓ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَأَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِ أَمۡسِكۡ عَلَيۡكَ زَوۡجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخۡفِي فِي نَفۡسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبۡدِيهِ وَتَخۡشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَىٰهُۖ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيۡدٞ مِّنۡهَا وَطَرٗا زَوَّجۡنَٰكَهَا لِكَيۡ لَا يَكُونَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ حَرَجٞ فِيٓ أَزۡوَٰجِ أَدۡعِيَآئِهِمۡ إِذَا قَضَوۡاْ مِنۡهُنَّ وَطَرٗاۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ مَفۡعُولٗا} (37)

ثم عاتب تعالى نبيه بقوله : { وإذ تقول } الآية ، واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب وهي في عصمة زيد وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، ثم إن زيداً لما اخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظماً بالشرف قال له : اتق الله فيما تقول عنها و { أمسك عليك زوجك } وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها وهذا هو الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، وقالوا خشي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالة الناس في ذلك فعاتبه الله تعالى على جميع هذا{[9520]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما الله مظهره » ، وقال الحسن : ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أشد عليه من هذه الآية ، وقال هو وعائشة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه ، وروى ابن زيد في نحو هذا القول أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب زيداً في داره فلم يجده ورأى زينب حاسرة فأعجبته فقال ( سبحان الله مقلب القلوب ){[9521]} .

قال القاضي أبو محمد : وروي في هذه القصة أشياء يطول ذكرها ، وهذا الذي ذكرناه مستوف لمعانيها ، وذهب قوم من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها ، ورووا عن علي بن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيداً يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها له ، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية : «اتق الله » أي في أقوالك و «أمسك عليك زوجك » وهو يعلم أنه سيفارقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها ، وخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من أن خشي الناس في أمر أباحه الله تعالى له وإن قال { أمسك } مع علمه أنه يطلق وأعلمه أن الله أحق بالخشية أي في كل حال{[9522]} ، وقوله : { أنعم الله عليه } يعني بالإسلام وغير ذلك ، وقوله : { وأنعمت عليه } يعني بالعتق وهو زيد بن حارثة ، وزينب هي بنت جحش وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أعلم تعالى أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها لتكون سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم وليتبين أنا ليست كحرمة النبوة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لزيد : ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ ، قال فذهبت ووليتها ظهري توقيراً للنبي صلى الله عليه وسلم وخطبتها ففرحت ، وقالت ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها{[9523]} .

و «الوطر » : الحاجة والبغية ، والإشارة هنا إلى الجماع ، وروى جعفر بن محمد عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وسلم «وطراً زوجتكها » .

قال الفقيه الإمام القاضي : وذهب بعض النّاس من هذه الآية ومن قول شعيب { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين }{[9524]} [ القصص : 7 ] إلى أن ترتيب هذا المعنى في المهور ينبغي أن يكون أنكحه إياها فيقدم ضمير الزوج لما في الآيتين ، وهذا عندي غير لازم لأن الزوج في الآية مخاطب فحسن تقديمه ، وفي المهور الزوجان غائبان{[9525]} فقدم من شئت فلم يبق ترجيح إلا بدرجة الرجال وأنهم القوامون ، وقوله تعالى : { وكان أمر الله مفعولاً } فيه حذف مضاف تقديره وكان حكم أمر الله أو مضمن أمر الله ، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول ، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور أي التي شأنها أن تفعل ، وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا ، فقالت عائشة : أنا التي سبقت صفتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة في سرقة حرير{[9526]} ، وقالت زينب : أنا التي زوجني الله من فوق سبع سماوات{[9527]} .

وقال الشعبي : كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن أن جدي وجدك واحد وأن الله أنكحك إياي من السماء وأن السفير في ذلك جبريل{[9528]} .


[9520]:ذكر السيوطي في الدر المنثور أن أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في السنن قد أخرجوا عن أنس رضي الله عنه أنه قال: جاء زيد بن حارثة رضي الله عنه يشكو زينب رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(اتق الله وامسك عليك زوجك)، فنزلت:{وتخفي في نفسك ما الله مبديه}، قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما لشيء لكتم هذه الآية، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة...الخ ما ذكره السيوطي. والصواب في معنى قوله تعالى:{وتخفي في نفسك ما الله مبديه} هو ما ذكره ابن عطية من أنه خشي قالة الناس، وأخفى علمه بأن زيدا سيطلق زينب وأن الله سيزوجها له، بدليل أن الذي أبداه الله تعالى هو زواجه إياها في قوله تعالى:{فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها}، ولم يبد الله تعالى شيئا مما زعموه من حبه صلى الله عليه وسلم لها، ثم إن الله تعالى هو الذي زوجه إياها لحكمة ذكرت صريحة في الآية في قوله تعالى:{لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم}.
[9521]:قال الحافظ بن حجر في تخريج الكشاف:"ذكره الثعلبي بدون سند"، وكذلك ذكر مثل هذا المعنى الخازن البغوي بدون سند، وما رواه الطبري في هذا كان عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن زيد هذا ضعيف.
[9522]:قال القرطبي في تفسيره، ونقله عنه أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط:"قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، كالزهري، والقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم".
[9523]:رواه أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، وذكر السيوطي في الرد المنثور أن ابن سعد، وأبا يعلى، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، كلهم قد أخرجوه عن انس بن مالك رضي الله عنه.
[9524]:من الآية(27) من سورة(القصص).
[9525]:معنى ذلك أنهما في الرتبة سواء، ولا ترجيح لأحد الضميرين على الآخر، اللهم إلا إذا رؤي ترجيح ضمير الرجال.
[9526]:السرق: شقق الحرير، والواحد سرقة.(مع)-عن المعجم الوسيط.
[9527]:لفظه في القرطبي:(أنا التي جاء بي الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة من حرير، فيقول:"هذه امرأتك"،) ثم قال:"خرجه الصحيح".وقال السيوطي في "الدر المنثور": "أخرج الحكيم الترمذي، وابن جرير عن محمد بن عبد الله بن جحش، قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما، فقالت زينب رضي الله عنها: أنا التي نزل تزويجي من السماء، وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا الذي نزل عذري من السماء في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت لها زينب رضي الله عنها: ما قلت حين ركبتها؟ قالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، قالت: قلت كلمة المؤمنين.
[9528]:أخرجه ابن جرير عن الشعبي.(الدر المنثور).