ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين ، وما يند منهم من أقوال وأعمال ، تكشف عن نواياهم التي يحاولون سترها ، فلا يستطيعون . فمنهم من يلمز النبي - [ ص ] - في توزيع الصدقات ، ويتهم عدالته في التوزيع ، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم ، ومنهم من يقول : هو أذن يستمع لكل قائل ، ويصدق كل ما يقال ، وهو النبي الفطن البصير ، المفكر المدبر الحكيم . ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة ، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ نفسه من تبعة ما قال . ومنهم من يخشى أن ينزل اللّه على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم للمسلمين .
ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين ، ببيان طبيعة النفاق والمنافقين ، ويربط بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل ، فأهلكهم اللّه بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم . ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين ، الذين يخلصون العقيدة ولا ينافقون .
( ومنهم من يلمزك في الصدقات ، فإن أعطوا منها رضوا ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون . ولو أنهم رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله ، وقالوا : حسبنا اللّه ، سيؤتينا اللّه من فضله ورسوله ، إنا إلى اللّه راغبون . إنما الصدقات للفقراء والمساكين ، والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب ، والغارمين ، وفي سبيل الله وابن السبيل ، فريضة من اللّه واللّه عليم حكيم ) . .
من المنافقين من يغمزك بالقول ، ويعيب عدالتك في توزيع الصدقات ، ويدعي أنك تحابي في قسمتها . وهم لا يقولون ذلك غضباً للعدل ، ولا حماسة للحق ، ولا غيرة على الدين ، إنما يقولونه لحساب ذواتهم وأطماعهم ، وحماسة لمنفعتهم وأنانيتهم :
( فإن أعطوا منها رضوا ) ولم يبالوا الحق والعدل والدين !
( وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) !
وقد وردت روايات متعددة عن سبب نزول الآية ، تقص حوادث معينة عن أشخاص بأعيانهم لمزوا الرسول - [ ص ] - في عدالة التوزيع .
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري - رضي اللّه عنه - قال : بينما النبي - [ ص ] - يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخويصر التميمي ، فقال : أعدل يا رسول اللّه . فقال : " ويلك ! ومن يعدل إذا لم أعدل ? " فقال عمر بن الخطاب - رضي اللّه عنه - ائذن لي فأضرب عنقه . فقال رسول اللّه - [ ص ] - " دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية . . . " قال أبو سعيد ، فنزلت فيهم : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) .
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود - رضي اللّه عنه - قال : " لما قسم النبي - [ ص ] - غنائم حنين سمعت رجلاً يقول : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه اللّه . فأتيت النبي - [ ص ] - فذكرت له ذلك فقال : " رحمة اللّه على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " ونزل ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) "
وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال : أتى النبي - [ ص ] - بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت ، ورآه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل . فنزلت هذه الآية .
وقال قتادة في قوله : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات ) يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي - [ ص ] - وهو يقسم ذهباً
وفضة ، فقال : يا محمد واللّه لئن كان اللّه أمرك أن تعدل ما عدلت ، فقال نبي اللّه - [ ص ] - " ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي ? "
وعلى أية حال فالنص القرآني يقرر أن القولة قولة فريق من المنافقين . يقولونها لا غيرة على الدين ، ولكن غضباً على حظ أنفسهم ، وغيظاً أن لم يكن لهم نصيب . . وهي آية نفاقهم الصريحة ، فما يشك في خلق الرسول - [ ص ] - مؤمن بهذا الدين ، وهو المعروف حتى قبل الرسالة بأنه الصادق الأمين . والعدل فرع من أمانات اللّه التي ناطها بالمؤمنين فضلاً على نبي المؤمنين . . وواضح أن هذه النصوص تحكي وقائع وظواهر وقعت من قبل ، ولكنها تتحدث عنها في ثنايا الغزوة لتصوير أحوال المنافقين الدائمة المتصلة قبل الغزوة وفي ثناياها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مّن يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم في هذه الاَيات مَنْ يَلْمِزُك فِي الصّدَقاتِ يقول : يعيبك في أمرها ويطعن عليك فيها ، يقال منه : لمز فلانا يَلْمِزُه ، ويَلْمُزُه : إذا عابه وقرصه ، وكذلك همزه . ومنه قيل : فلان هُمَزةُ لمَزة ، ومنه قول رؤبة :
قارَبْتُ بينَ عَنَقِي وَجمْزِي *** فِي ظِلّ عَصْرَيْ باطِليِ ولَمْزِي
إذَا لَقِيتُكَ تُبْدِي لي مُكاشَرَةً *** وأنْ أغِيبَ فأنْتَ العائِبُ اللّمَزَهْ
فإنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا يقول : ليس بهم في عيبهم إياك فيها وطعنهم عليك بسببها الدين ، ولكن الغضب لأنفسهم ، فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك ، وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ قال : يَرُوزُك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ يروزك ويسألك .
قال ابن جريج : وأخبرني داود بن أبي عاصم ، قال : قال أُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بصدقة ، فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت ، قال : ورآه رجل من الأنصار ، فقال : ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات . وذُكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية ، أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة ، فقال : يا محمد ، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «وَيْلَكَ فَمَنْ ذَا يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي ؟ » ثم قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «احْذَرُوا هَذَا وأشْباهَهُ ، فإنّ فِي أُمّتِي أشْباهَ هَذَا يَقْرَءُونَ القُرآنَ لا يُجاوزُ تَرَاقِيَهُمْ ، فإذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ ، ثُمّ إذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ ، ثُمّ إذَا خَرَجُوا فاقْتُلُوهُمْ » . وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أُعْطِيكُمْ شَيْئا وَلا أمْنَعْكُمُوهُ إنّمَا أنا خازِنٌ » .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ قال : يطعن .
قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد ، قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما ، إذ جاءه ابن ذي الخويصرة التميمي ، فقال : اعدل يا رسول الله فقال : «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إنْ لَمْ أعْدِلْ ؟ » فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه قال : «دعه ، فإنّ لَهُ أصَحابا يَحْقِرُ أحَدُكُمْ صَلاتَهُ مَعَ صَلاتِهِمْ وَصِيامَهُ مَعَ صِيامِهِمْ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كما يَمْرُقُ السّهُمْ مِنَ الرّمِيّةِ ، فَيَنْظُرُ فِي قُذَذهِ فَلا يَنْظُرُ شَيْئا ، ثُمّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ فَلا يَجِدُ شَيْئا ، ثُمّ يَنْظُرُ فِي رَصَافِهِ فَلا يَجِدُ شَيْئا ، قَد سَبَقَ الفَرْثَ وَالدّمَ ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أسْوَدُ إحْدَى يَدَيْهِ أوْ قالَ : يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرأة أوْ مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ ، يَخْرُجُونَ على حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ النّاسِ » . قال : فنزلت : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ . قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن عليّا رحمة الله عليه حين قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقاتِ فإنْ أُعُطُوا مِنْها رَضوا وَإنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ قال : هؤلاء المنافقون ، قالوا : والله ما يعطيها محمد إلا من أحبّ ، ولا يؤثر بها إلا هواه فأخبر الله نبيه ، وأخبرهم أنه إنما جاءت من الله ، وأن هذا أمر من الله ليس من محمد : إنّمَا الصّدقاتُ للفُقَرَاءِ . . . الآية .
{ ومنهم من يَلزُمك } يعيبك . وقرأ يعقوب " يُلمِزُك " بالضم وابن كثير " يلامزك " . { في الصدقات } في قسمها . { فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق فقال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل . وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال : اعدل يا رسول الله فقال : " ويلك إن لم أعدل فمن يعدل " . و{ إذا } للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية .
عرف المنافقون بالشحّ كما قال الله تعالى : { أشحة عليكم } [ الأحزاب : 19 ] وقال { أشحة على الخير } [ الأحزاب : 19 ] ومن شحّهم أنّهم يودّون أنّ الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها تُوزّع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يُلقونها في أحاديثهم ، ويظهرون أنّهم يغارون على مستحقّيها ، ويشمئزّون من صرفها في غير أهلها ، وإنّما يرومون بذلك أن تقصر عليهم .
روي أنّ أبا الجَوَّاظ ، من المنافقين ، طَعَن في أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أموالِ الصدقات بعضَ ضعفاء الأعراب رعاء الغنم ، إعانة لهم ، وتأليفاً لقلوبهم ، فقال : ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم ، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين ، وقد روي أنّه شافه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن أبي سعيد الخدري : أنّها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبيء صلى الله عليه وسلم اعدل ، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع ، فلعل السبب تكرّر ، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب .
واللّمز القدح والتعييب ، مضارعه من باب يضرب ، وبه قرأ الجمهور ، ومن باب ينصرُ ، وبه قرأ يعقوب وحده .
وأدخلت { في } على الصدقات ، وإنّما اللمز في توزيعها لا في ذواتها : لأنّ الاستعمال يدلّ على المراد ، فهذا من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها .
ثم إنّ قوله : { فإن أعطوا منها رضوا } يحتمل : أنّ المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور ، أي إن أعطي اللامزون ، أي إنّ الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة ، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع ، ويحتمل أنّ الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير { منهم } أي : فإن أعطي المنافقون رضي اللاَّمزون ، وإن أعطي غيرهم سخطوا ، فالمعنى أنّهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلاّ على فقرائهم ولذلك كره أبو الجَواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات .
ولم يُذكر متعلّق { رضوا } ، لأنّ المراد صاروا راضين ، أي عنك .
ودلّت { إذا } الفجائية على أنّ سخطهم أمر يفاجىء العاقل حين يشهده لأنّه يكون في غير مظنّة سخط ، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها .