وبعد استعراض مشهد الميثاق الكوني بالتوحيد ؛ واستعراض مثل المنحرف عن هذا الميثاق وعن آيات الله بعد إذ آتاه الله إياها . . يعقب بالتوجيه الآمر بإهمال المنحرفين - الذين كانوا يتمثلون في المشركين الذين كانوا يواجهون دعوة الإسلام بالشرك - الذين يلحدون في أسماء الله ويحرفونها ، فيسمون بها الشركاء المزعومين :
( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ، وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، سيجزون ما كانوا يعملون ) .
والإلحاد هو الإنحراف أو التحريف . . وقد حرف المشركون في الجزيرة أسماء الله الحسنى ، فسموا بها آلهتهم المدعاة . . حرفوا اسم( الله )فسموا به " اللات " . واسم( العزيز )فسموا به " العزى " . . فالآية تقرر أن هذه الأسماء الحسنى لله وحده . وتأمر أن يدعوه المؤمنون وحده بها ، دون تحريف ولا ميل ؛ وأن يدعوا المحرفين المنحرفين ؛ فلا يحفلوهم ولا يأبهوا لما هم فيه من الإلحاد . فأمرهم موكول إلى الله ؛ وهم ملاقون جزاءهم الذي ينتظرهم منه . . وياله من وعيد ! . .
وهذا الأمر بإهمال شأن الذين يلحدون في أسماء الله ؛ لا يقتصر على تلك المناسبة التاريخية ، ولا على الإلحاد في أسماء الله بتحريفها اللفظي إلى الآلهة المدعاة . . إنما هو ينسحب على كل ألوان الإلحاد في شتى صوره . . ينسحب على الذين يلحدون - أي يحرفون أو ينحرفون - في تصورهم لحقيقة الألوهية على الإطلاق . كالذين يدّعون له الولد . وكالذين يدّعون أن مشيئته - سبحانه - مقيدة بنواميس الطبيعة الكونية ! وكالذين يدعون له كيفيات أعمال تشبه كيفيات أعمال البشر - وهو سبحانه ليس كمثله شيء - وكذلك من يدعون أنه سبحانه إله في السماء ، وفي تصريف نظام الكون ، وفي حساب الناس في الآخرة . ولكنه ليس إلهاً في الأرض ، ولا في حياة الناس ، فليس له - في زعمهم - أن يشرع لحياة الناس ؛ إنما الناس هم الذين يشرعون لأنفسهم بعقولهم وتجاربهم ومصالحهم - كما يرونها هم - فالناس - في هذا - هم آلهة أنفسهم . أو بعضهم آلهة بعض ! . . وكله إلحاد في الله وصفاته وخصائص ألوهيته . . والمسلمون مأمورون بالإعراض عن هذا كله وإهماله ؛ والملحدون موعدون بجزاء الله لهم على ما كانوا يعملون !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره ولِلّهِ الأسْماءُ الحُسْنَى ، وهي كما قال ابن عباس .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ولِلّهِ الأسْماءُ الحُسْنَى فادْعُوهُ بِها ومن أسمائه : العزيز الجبار ، وكلّ أسماء الله حسن .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ لِلّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْما ، مِئَةً إلاّ وَاحِدا ، مَنْ أحْصَاها كُلّها دَخَلَ الجَنّةَ » .
وأما قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ فإنه يعني به المشركين . وكان إلحادهم في أسماء الله أنهم عدلوا بها عما هي عليه ، فسموا بها آلهتهم وأوثانهم ، وزادوا فيها ونقصوا منها ، فسموا بعضها اللات اشتقاقا منهم لها من اسم الله الذي هو الله ، وسموا بعضها العزّى اشتقاقا لها من اسم الله الذي هو العزيز .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ قال : إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَذَرُوا الّذينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ قال : اشتقوا العُزّى من العزيز ، واشتقوا اللات من الله .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله يُلْحِدُونَ فقال بعضهم : يكذّبون . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ قال : الإلحاد : التكذيب .
وقال آخرون : معنى ذلك : يشركون . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا أبو ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يُلْحِدُونَ قال : يشركون .
وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدول عن القصد ، والجور عنه ، والإعراض ، ثم يستعمل في كلّ معوجّ غير مستقيم ، ولذلك قيل للحد القبر لحد ، لأنه في ناحية منه وليس في وسطه ، يقال منه : ألحد فلان يُلْحِد إلحادا ، ولَحد يَلْحَدُ لَحْدا ولُحُودا . وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرّق بين الإلحاد واللحد ، فيقول في الإلحاد : إنه العدول عن القصد ، وفي اللحد إنه الركون إلى الشيء ، وكان يقرأ جميع ما في القرآن «يُلحدون » بضمّ الياء وكسر الحاء ، إلاّ التي في النحل ، فإنه كان يقرؤها : «يَلحَدون » بفتح الياء والحاء ، ويزعم أنه بمعنى الركون . وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب فيرون أن معناهما واحد ، وأنهما لغتان جاءتا في حرف واحد بمعنى واحد .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين : يُلْحِدون بضمّ الياء وكسر الحاء من ألحد يُلحِد في جميع القرآن . وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة : «يَلْحَدون » بفتح الياء والحاء من لحد يلحد .
والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في ذلك . غير أني أختار القراءة بضمّ الياء على لغة من قال : «ألحد » ، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما . وكان ابن زيد يقول في قوله : وَذرُوا الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أسْمائِهِ إنه منسوخ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدونَ فِي أسْمائِهِ قال : هؤلاء أهل الكفر ، وقد نسخ ، نسخه القتال .
ولا معنى لما قال ابن زيد في ذلك من أنه منسوخ ، لأن قوله : وَذَرُوا الّذِينَ يُلْحِدونَ فِي أسْمائِهِ ليس بأمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بترك المشركين أن يقولوا ذلك حتى يأذن له في قتالهم ، وإنما هو تهديد من الله للملحدين في أسمائه ووعيد منه لهم ، كما قال في موضع آخر : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ . . . الاَية ، وكقوله : لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وهو كلام خرج مخرج الأمر بمعنى الوعيد والتهديد ، ومعناه : إن تُمهل الذين يُلحدون يا محمد في أسماء الله إلى أجل هم بالغوه ، فسوف يجزون إذا جاءهم أجل الله الذي أجّله إليهم جزاء أعمالهم التي كانوا يعملونها قبل ذلك من الكفر بالله والإلحاد في أسمائه وتكذيب رسوله .
{ ولله الأسماء الحسنى } لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني ، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات . { فادعوه بها } فسموه بتلك الأسماء . { وذروا الذين يُلحدون في أسمائه } واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه ، إذ ربما يوهم معنى فاسدا كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه ، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم : ما نعرف إلا رحمان اليمامة ، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من " الله " ، والعزى من " العزيز " ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال : { سيُجزون ما كانوا يعملون } وقرأ حمزة هنا وفي " فصلت " { يلحدون } بالفتح يقال : لحد وألحد إذا مال عن القصد .
وقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } الآيات ، السبب في هذه الآية على ما روي ، أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمن ونحو هذا فقال : محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد لآهلة كثيرة فنزلت هذه و { الأسماء } هنا بمعنى التسميات إجماعاً من المتأولين لا يمكن غيره ، و { الحسنى } : مصدر وصف به ، ويجوز أن تقدر { الحسنى } فعلى مؤنثه أحسن ، فأفرد وصف جميع ما لا يعقل كما قال { مآرب أخرى } وكما قال { يا جبال أوبي معه } وهذا كثير ، وحسن الأسماء إنما يتوجه بتحسين الشرع لإطلاقها ، والنص عليها ، وانضاف إلى ذلك أيضاً أنها إنما تضمنت معاني حساناً شريفة .
واختلف الناس في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ولا يتعلق به شبهة ولا اشتراك ، إلا أنه لم ير منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به ؟ فنص ابن الباقلاني على جواز ذلك ونص أبو الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاء والجمهور على المنع ، وهو الصواب أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ووقفت عليه أيضاً ، فإن هذه الشريطة التي في جواز إطلاقه من أن تكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه إلا الأقل من أهل العلوم فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان وهو لا يحسن فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً ، واختلف أيضاً في الأفعال التي في القرآن مثل قوله :
{ الله يستهزىء بهم } { ومكر الله } ونحو ذلك هل يطلق مها اسم الفاعل ؟ فقالت فرقة : لا يطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيداً بسببه فيقال : الله مستهزىء بالكافرين وماكر بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً ، والقول الأول أقوى ولا ضرورة تدفع إلى القول الثاني لأن صيغة الفعل الواردة في كتاب الله تغني ومن أسماء الله تعالى ما ورد في القرآن ومنها ما ورد في الحديث وتواتر ، وهذا هو الذي ينبغي أن يعتمد عليه ، وقد ورد في الترمذي حديث عن أبي هريرة ونص فيه تسعة وتسعين اسماً ، وفي بعضها شذوذ وذلك الحديث ليس بالمتواتر وإنما المتواتر منه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة » ، ومعنى أحصاها :عدها وحفظها ، وتضمن ذلك الإيمان بها والتعظيم لها والرغبة فيها والعبرة في معانيها ، وهذا حديث البخاري ، والمتحصل منه أن لله تعالى هذه الأسماء مباحاً إطلاقها وورد في بعض دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «يا حنان يا منان » ولم يقع هذا الاسمان في تسمية الترمذي .
وقوله : { فادعوه بها } إباحة بإطلاقها ، وقوله تعالى : { وذروا الذين } قال ابن زيد : معناه اتركوهم ولا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم ، فالآية على هذا منسوخة بالقتال ، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } وقوله : { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } ويقال ألحد ولحد بمعنى جار ومال وانحرف ، وألحد أشهر ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
****** *** ليس الإمام بالشحيحٍ الملحِد .
قال أبو علي : ولا يكاد يسمع لأحد وفي القرآن { ومن يرد فيه بإلحاد } ومنه لحد القبر المائل إلى أحد شقيه ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «يُلحِدون » بضم الياء وكسر الحاء وكذلك في النحل والسجدة ، وقرأ حمزة الأحرف الثلاثة «يَلحَدون » بفتح الياء والحاء وكذلك ابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش ، ومعنى الإلحاد في أسماء الله عز وجل أن يسموا اللات نظيراً إلى اسم الله تعالى قاله ابن عباس : والعزى نظيراً إلى العزيز ، قاله مجاهد ، ويسمون الله رباً ويسمون أوثانهم أرباباً ونحو هذا ، وقوله : { سيجزون ما كانوا يعملون } وعيد محض بعذاب الآخرة ، وذهب الكسائي إلى الفرق بين ألحد ولحد ، وزعم أن ألحد بمعنى مال وانحرف ، ولحد بمعنى ركن وانضوى ، قال الطبري : وكان الكسائي يقرأ جميع ما في القرآن بضم الياء وكسر الحاء إلا التي في النحل فإنه كان يقرؤها بفتح الياء والحاء ويزعم أنها بمعنى الركون وكذلك ذكر عنه أبوعلي .
هذا خطاب للمسلمين ، فتوسطه في خلال مذام المشركين ؛ لمناسبة أن أفظع أحوال المعدودين لجنهم هو حال إشراكهم بالله غيره ، لأن في ذلك إبطالاً لأخص الصفات بمعنى الإلهية : وهي صفة الوحدانية وما في معناها من الصفات نحو الفرد ، الصمد . وينضوي تحت الشرك تعطيل صفات كثيرة مثل : الباعث ، الحسيب ، والمُعيد ، ونشأ عن عناد أهل الشرك إنكار صفة الرحمن .
فعقبت الآيات التي وصفت ضلال إشراكهم بتنبيه المسلمين للاقبال على دعاء الله بأسمائه الدالة على عظيم صفات الإلهية ، والدوام على ذلك ، وأن يُعرضوا عن شغب المشركين وجدالهم في أسماء الله تعالى .
وقد كان من جملة ما يتورك به المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، أن أنكروا اسمه تعالى الرحمن ، وهو إنكار لم يقدمهم عليه جهلهم بأن الله موصوف بما يدل عليه وصف ( رحمان ) من شدة الرحمة ، وإنما أقدمهم عليه ما يقدم كل معاند من تطلب التغليظ والتخطئة للمخالف ، ولو فيما يعرف أنه حق ، وذكر ابن عطية ، وغيره . أنه روي في سبب نزول قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ، ومرة يقرأ فيذكر الرحمان فقال أبو جهل « محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد آلهة كثيرة » فنزلت هذه الآية .
فعطفُ هذه الآية على التي قبلها عطفُ الإخبار عن أحوال المشركين وضلالهم ، والغرض منها قوله : { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } .
وتقديم المجرور المسند على المسند إليه ؛ لمجرد الاهتمام المفيد تأكيد استحقاقه إياها ، المستفاد من اللام ، والمعنى أن اتسامه بها أمر ثابت ، وذلك تمهيد لقوله : { فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } ، وقد التزم مثل هذا التقديم في جميع الآي التي في هذا الغرض مثل قوله في سورة الإسراء ( 110 ) { فله الأسماء الحسنى } وسورة طه ( 8 ) { له الأسماء الحسنى } وفي سورة الحشر ( 24 ) { له الأسماء الحسنى } وكل ذلك تأكيد للرد على المشركين أن يكون بعض الأسماء الواردة في القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم أسماء لله تعالى بتخييلهم أن تعدد الاسم تعدد للمسمى تمويهاً على الدهماء .
والأسماء هي الألفاظ المجعولة أعلاماً على الذات بالتخصيص أو بالغلبة فاسم الجلالة وهو ( الله ) علم على ذات الإله الحق بالتخصيص ، شأن الأعلام ، و ( الرحمن ) و ( الرحيم ) اسمان لله بالغلبة ، وكذلك كل لفظ مفرد دل على صفة من صفات الله ، وأطلق إطلاق الأعلام نحو الرب ، والخالق ، والعزيز ، والحكيم ، والغفور ، ولا يدخل في هذا ما كان مركّباً إضافياً نحو : ذو الجلال ، ورب العرش ، فإن ذلك بالأوصاف أشبه ، وإن كان دالاً على معنى لا يليق إلا بالله نحو : { مَلك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] .
والحسنى مؤنث الأحسن ، وهو المتصف بالحسن الكامل في ذاته ، المقبول لدى العقول السليمة المجردة عن الهوى ، وليس المراد بالحسن الملاءمةَ لجميع الناس ، لأن الملاءمة وصف إضافة نسبي ، فقد يلائم زيداً ما لا يلائم عمراً ، فلذلك فالحسنُ صفة ذاتية للشيء الحسن .
ووصف الأسماء ب { الحسنى } : لأنها دالة على ثبوت صفات كمال حقيقي ، أما بعضها فلأن معانيها الكاملة لم تثبت إلا لله نحو الحي ، والعزيز ، والحكيم ، والغني ، وأما البعض الآخر فلأن معانيها مطلقاً لا يحسن الاتصاف بها إلا في جانب الله نحو المتكبر ، والجبّار ، لأن معاني هذه الصفات وأشباهها كانت نقصاً في المخلوق من حيث أن المتسم بها لم يكن مستحقاً لها لعجزه أو لحاجته ، بخلاف الإله ، لأنه الغني المُطلق ، فكان اتصافُ المخلوق بها منشأ فساد في الأرض ، وكان اتصاف الخالق بها منشأ صلاح ، لأنها مصدر العدالة والجزاء القسطِ .
والتفريع في قوله : { فادعوه بها } تفريع عن كونها أسماء له ، وعن كونها حسنى ، أي فلا حرج في دعائه بها ؛ لأنها أسماء متعددة لمسمى واحد ، لا كما يزعم المشركون ، ولأنها حسنى فلا ضير في دعاء الله تعالى بها . وذلك يشير إلى أن الله يُدعى بكل ما دل على صفاته وعلى أفعاله .
وقد دلت الآية على أن كل ما دل على صفة الله تعالى وشأن من شؤونه على وجه التقريب للأفهام بحسب المعتاد يسوغ أن يُطلق منه اسم لله تعالى ما لم يكن مجيئه على وجه المجاز نحو { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] أو يُوهم معنى نقص في متعارف الناس نحو الماكر من قوله : { واللَّه خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] .
وليست أسماء الله الحسنى منحصرة في التسعه والتسعين الواردة في الحديث الصحيح عن الأعرج ، وعن أبي رافع ، وعن همام بن منبه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تسعة وتسعين أسماً مَن أحصاها دخل الجنة " لأن الحديث الصحيح ليس فيه ما يقتضي حصر الأسماء في ذلك العدد ، ولكن تلك الأسماءَ ذات العدد لها تلك المزية ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال يا حنّان يا منّان ولم يقع هذان الاسمان فيما روي من التسعة والتسعين ، وليس في الحديث المروي بأسانيد صحية مشهورة تعيين الأسماء التسعة والتسعين ، ووقع في « جامع الترمذي » من رواية شعيب بن أبي حمزة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة بعد قوله : « دخل الجنة » هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمان الرحيم إلى آخرها ، فعيّن صفات لله تعالى تسعاً وتسعين ، وهي المشهورة بين الذين تصدوا لبيانها ، قال الترمذي : « هذا حديث غريب حدَثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث ، ولا نعلم في شيء من الروايات لها إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث » .
وتعيين هذه الأسماء لا يقتضي أكثر من أن مزيتها أن مَن أحصاها وحفظها دخل الجنة ، فلا يمنع أن تُعد لله أسماء أخرى . وقد عد ابن بَرّحان الإشبيلي في كتابه « أسماء الله الحسنى » مائة واثنتين وثلاثين اسماً مستخرجة من القرآن والأحاديث المقبولة ، وذكر القرطبي : أن له كتاباً سماه « الأسنى في شرح الأسماء الحسنى » ذكر فيه من الأسماء ما يُنيف على مائتي اسم ، وذكر أيضاً أن أبا بكر بن العربي ذكر عدة من أسمائه تعالى مثل مُتمّ نوره ، وخير الوارثين ، وخير الماكرين ، ورابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، والطيب ، والمعلم إلخ .
ولا تخفى سماجة عد نحو رَابع ثلاثة ، وسادس خمسة ، فإنها وردت في القرآن في سياق المجاز الواضح ولا مناص من تحكيم الذوق السليم ، وليس مجردَ الوقوف عند صورة ظاهرة من اللفظ ، وذكر ابن كثير في « تفسيره » عن كتاب « الأحوذي في شرح الترمذي » لعله يعني « عارضة الأحوذي » « أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم » ولم أجده في نسخ « عارضة الأحواذي » لابن العربي ، ولا ذكره القرطبي وهو من خاصة تلاميذ ابن العربي ، والموجود في كتاب « أحكام القرآن » له أنه حضره منها مائة وستة وأربعون اسماً وساقها في كتاب « الأحكام » ، وسقط واحد منها في المطبوعة ، وذكر أنه أبلغها في كتابه « الآمد » ( أي « الامد الأقصى » ) في شرح الأسماء إلى مائة وستة وسبعين اسماً .
قال ابن عطية : واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحاً خالصاً ، ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يَرد منصوصاً هل يطلق ويسمى الله به ، فنصُ الباقلاني على جواز ذلك ، ونص أبي الحسن الأشعري على منع ذلك ، والفقهاءُ والجمهور على المنع ، والصواب : أن لا يُسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة ، وأن يكون مدحاً خالصاً لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه ، إلا الأقل من أهل العلوم ، فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه الإحسان ، فادخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعاً . واختلف في الأفعال التي في القرآن نحو { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] و { مكر اللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] ونحو ذلك هل يطلق منها اسم الفاعل ، فقالت فرقة : لا يُطلق ذلك بوجه ، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيّداً بسببه نحو : اللَّهَ ماكر بالذين يمكرون بالدين ، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعاً .
والمراد من ترك { الذين يُلحدون في أسمائه } الإمساكُ عن الاسترسال في محاجتهم لظهور أنهم غير قاصدين معرفة الحق ، أو تركُ الإصغاء لكلامهم ؛ لئلا يفتنوا عامة المؤمنين بشبهاتهم ، أي اتركوهم ولا تُغلّبوا أنفسكم في مجادلتهم ، فإني سأجْزيهم وقد تقدم معنى « ذر » عند قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .
والإلحاد : الميل عن وسط الشيء إلى جانبه ، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلها ، ولما كان وسط الشيء يشبّه به الحق والصواب ، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد ، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد ، ويُعدى حينئذ ب ( في ) لتنزيل المجرور بها منزلة المكان للإلحاد ، والأكثر أن يكون ذلك عن تعمد للإفساد ، ويقال : لحَد وألحد ، والأشهر ألحد .
وقرأ من عدا حمزة { يُلحدون } بضم الياء وكسر الحاء من ألحد المهموز ، وقرأه حمزة وحده : بفتح الياء والحاء ، من لحد المجرد .
وإضافة الأسماء إلى الله تؤذن بأن المقصود أسماؤه التي ورد في الشرع ما يقتضي تسميته بها .
ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهراً من مظاهر الكفر ، وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له ، وهو الأحق بكمال مدلولها فإنهم أنكروا الرحمان ، كما تقدم ، وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ، ولمز النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عدد الآلهة ، ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال ، فحُق بأن يُسمى إلحاداً ؛ لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد .
وهذا يناسب أن يكون حرف ( في ) من قوله : { في أسمائه } مستعملاً في معنى التعليل كقول النبي صلى الله عليه وسلم « دَخلتْ امرأة النار في هرة » الحديث ، وقول عُمر بن أبي ربيعة :
وعصيْتُ فيك أقاربي فتقطعت *** بيني وبينهم عُرى أسبابي
وقد جوّز المفسرون احتمالات أخرى في معنى الإلحاد في أسمائه : منها ثلاثة ذكرها الفخر ، وأنا لا أراها مُلاقية لإضافة الأسماء إلى ضميره تعالى ، كما لا يخفى عن الناظر فيها .
وجملة : { سيُجْزون ما كانوا يعملون } تتنزل منزلة التعليل للأمر بترك الملحدين ، فلذلك فصلت ، أي لا تهتموا بإلحادهم ولا تحزنوا له ، لأن الله سيجزيهم بسوء صنيعهم ، وسمي إلحادهم عملاً ؛ لأنه من أعمال قلوبهم وألسنتهم .
و ( ما ) موصولة عامة أي سيجزون بجميع ما يعملونه من الكفر ، ومن جملة ذلك إلحادهم في أسمائه .
والسين للاستقبال ، وهي تفيد تأكيد .
وقيل : { ما كانوا يعملون } دون ما عملوا أو ما يعملون للدلالة على أن ذلك العمل سنة لهم ومتجدد منهم .