وهذه القوامة على شؤون البشر ، وهذا التدبير لأمرهم بالخير ، ليس إلا طرفا من القوامة الكبرى على شؤون الكون والحياة على الإطلاق :
( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ؛ وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ؛ وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
والتعبير التصويري لهذه الحقيقة الكبيرة ، يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس : هذه الحركة الخفية المتداخلة . حركة إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ؛ وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي . . الحركة التي تدل على يد الله بلا شبهة ولا جدال ، متى القى القلب إليها انتباهه ، واستمع فيها إلى صوت الفطرة الصادق العميق .
وسواء كان معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول . . أو كان هو دخول هذا في هذا عند دبيب الظلمة ودبيب الضياء في الأمساء والأصباح . . سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله وهي تحرك الأفلاك ، وتلف هذه الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة ، وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء . . شيئا فشيئا يتسرب غبش الليل إلى وضاءة النهار . وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام . . شيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء . وشيئا فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف . . وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة ؛ ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير !
كذلك الحياة والموت ، يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج . كل لحظة تمر على الحي يدب فيه الموت إلى جانب الحياة ، ويأكل منه الموت وتبنى فيه الحياة ! خلايا حية منه تموت وتذهب ، وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل . وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخرى إلى الحياة . وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخرى إلى الموت . . هذا في كيان الحي الواحد . . ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله ، ولكن خلاياه تتحول إلى ذرات تدخل في تركيب آخر ثم تدخل في جسم حي فتدب فيها الحياة . . وهكذا دورة دائبة في كل لحظة من لحظات الليل والنهار . . ولا يدعي الإنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا . ولا يزعم عاقل كذلك أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير !
حركة في كيان الكون كله وفي كيان كل حي كذلك . حركة خفية عميقة لطيفة هائلة . تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري ؛ وهي تشي بيد القادر المبدع اللطيف المدبر . . فأنى يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر ؟ وأنى يختارون لأنفسهم أنظمة من صنع أهوائهم وهم قطاع من هذا الكون الذي ينظمه الحكيم الخبير
ثم أنى يتخذ بعضهم بعضا عبيدا ، ويتخذ بعضهم بعضا أربابا ، ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال :
( وترزق من تشاء بغير حساب ) . .
إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلى الحقيقة الكبرى . حقيقة الألوهية الواحدة . حقيقة القوامة الواحدة . وحقيقة الفاعلية الواحدة وحقيقة التدبير الواحد . وحقيقة المالكية الواحدة وحقيقة العطاء الواحد . ثم حقيقة أن الدينونة لا تكون إلا لله القيوم ، مالك الملك ، المعز المذل ، المحيي المميت ، المانح المانع ، المدبر لأمر الكون والناس بالقسط والخير على كل حال .
{ تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { تُولِجُ } تدخل ، يقال منه : قد ولج فلان منزله : إذا دخله ، فهو يَلِجُهُ وَلْجا وَوُلُوجا ولِجَةً ، وأولجته أنا : إذا أدخلته . ويعني بقوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ } تدخل ما نقصت من ساعات الليل في ساعات النهار ، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا . { وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } وتدخل ما نقصت من ساعات النهار في ساعات الليل ، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار . كما :
حدثني موسى ، قال حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ } حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة والنهار تسع ساعات ، وتدخل النهار في الليل ، حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما نقص من النهار يجعله في الليل ، وما نقص من الليل يجعله في النهار .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ } قال : ما ينقص من أحدهما يدخل في الاَخر متعاقبان أو يتعاقبان ، شكّ أبو عاصم ذلك من الساعات .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { تُولِجُ اللّيْل فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيلِ } ما ينقص من أحدهما في الاَخر يتعاقبان في ذلك من الساعات .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } قال : هو نقصان أحدهما في الاَخر .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهارَ فِي اللّيْلِ } قال : يأخذ الليل من النهار ، ويأخذ النهار من الليل . يقول : نقصان الليل في زيادة النهار ، ونقصان النهار في زيادة الليل .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } يعني أنه يأخذ أحدهما من الاَخر ، فيكون الليل أحيانا أطول من النهار ، والنهار أحيانا أطول من الليل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { تُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ } قال : هذا طويل ، وهذا قصير ، أخذ من هذا فأولجه في هذا حتى صار هذا طويلاً وهذا قصيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وتُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويل ذلك : أنه يخرج الشيء الحيّ من النطفة الميتة ، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة ، وهو حيّ ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : الناس الأحياء من النطف والنطف ميتة ، ويخرجها من الناس الأحياء والأنعام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } فذكر نحوه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } فالنطفة ميتة تكون تخرج من إنسان حيّ ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة .
حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي ، قال : حدثنا أشعث السجستاني ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال تخرج النطفة من الرجل ، والرجل من النطفة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة ، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } . . . الاَية ، قال : الناس الأحياء من النطف ، والنطف ميتة من الناس الأحياء ، ومن الأنعام والنبت كذلك . قال ابن جريج ، وسمعت يزيد بن عويمر يخبّر عن سعيد بن جبير ، قال : إخراجه النطفة من الإنسان ، وإخراجه الإنسان من النطفة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : النطفة ميتة ، فتخرج منها أحياء . { وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء ، والحبّ ميتة تخرج منه حيا . { وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } تخرج من هذا الحيّ حبا ميتا .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه يخرج النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والسنبل من الحبّ والحبّ من السنبل ، والبيض من الدجاج ، والدجاج من البيض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تميلة ، قال : حدثنا عبد الله ، عن عكرمة قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ } قال : هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة ، ثم يخرج منها الحيّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنه يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } يعني المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، والمؤمن عبد حيّ الفؤاد ، والكافر عبد ميت الفؤاد .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال الحسن في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، عن سعيد بن عمرو ، عن الحسن قرأ : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : تخرج المؤمن من الكافر ، وتخرج الكافر من المؤمن .
حدثني حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان ، أو عن ابن مسعود وأكبر ظني أنه عن سلمان قال : إن الله عزّ وجلّ خمّر طينة آدم أربعين ليلة أو قال : أربعين يوما ثم قال بيده فيه ، فخرج كل طيب في يمينه ، وخرج كل خبيث في يده الأخرى ، ثم خلط بينهما ، ثم خلق منها آدم ، فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ، يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النّعْمة ، فقال : «مَنْ هَذِهِ ؟ » قالت : إحدى خالاتك ، قال : «إنّ خالاتِي بِهَذِهِ البَلدةِ لغَرَائِبُ ! وأيّ خالاتِي هَذِهِ ؟ » قالت : خلْدة ابنة الأسود بن عبد يغوث ، قال : «سُبْحانَ الّذِي يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ » وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافرا .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } قال : هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنا ، وأن المؤمن يلد كافرا ؟ فقال : هو كذلك .
وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الاَية بالصواب تأويل من قال : يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء من النطف الميتة ، وذلك إخراج الحيّ من الميت ، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياء ، وذلك إخراج الميت من الحيّ ، وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده ، فذلك الذي فارقه منه ميت ، فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه ، ثم ينشىء الله منها إنسانا حيا وبهائم وأنعاما أحياء ، وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه ، فالذي زايله منه ميت ، وذلك هو نظير قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وكُنْتُمْ أمواتا فأحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إلَيْهِ تُرْجَعُون } .
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة ، والبيضة من الدجاجة ، والدجاجة من البيضة ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، فإن ذلك وإن كان له وجه مفهوم ، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام ، وتوجيه معاني كتاب الله عزّ وجلّ إلى الظاهر المستعمل في الناس ، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته جماعة منهم : { تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وَتُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ } بالتشديد وتثقيل الياء من الميت ، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات ، ومما لم يمت . وقرأت جماعة أخرى منهم : «تُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيْتِ وَتُخْرِجُ الْمَيْتَ مِنَ الحَيّ » بتخفيف الياء من الميت . بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات دون الشيء الذي لم يمت ، وتخرج الشيء الميت دون الشيء الذي لم يمت من الشيء الحيّ ، وذلك أن الميت مثقل الياء عند العرب ما لم يمت وسيموت وما قد مات . وأما الميْت مخففا : فهو الذي قد مات ، فإذا أرادوا النعت قالوا : إنك مائت غدا وإنهم مائتون ، وكذلك كل ما لم يكن بعد ، فإنه يخرج على هذا المثال الاسم منه ، يقال : هو الجائد بنفسه والطائبة نفسه بذلك ، وإذا أريد معنى الاسم قيل : هو الجواد بنفسه والطيبة نفسه . فإذا كان ذلك كذلك ، فأولى القراءتين في هذه الاَية بالصواب قراءة من شّدد الياء من الميّت ، لأن الله جلّ ثناؤه يخرج الحيّ من النطفة التي قد فارقت الرجل ، فصارت ميتة ، وسيخرجه منها بعد أن تفارقه وهي في صلب الرجل ، ويخرج الميت من الحيّ ، النطفة التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميتا ، وهي قبل خروجها منه حية ، فالتشديد أبلغ في المدح أكمل في الثناء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : أنه يعطي من يشاء من خلقه ، فيجود عليه بغير محاسبة منه لمن أعطاه ، لأنه لا يخاف دخول انتقاص في خزائنه ، ولا الفناء على ما بيده . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ } قال : يخرج الرزق من عنده بغير حساب ، لا يخاف أن ينقص ما عنده تبارك وتعالى .
فتأويل الاَية إذا : اللهمّ يا مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إلَه ورب وعبدوه دونك ، أو اتخذوه شريكا معك ، أو أنه لك ولد وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء ، وتقدر بها على كل شيء ، تولج الليل في النهار ، وتولج النهار في الليل ، فتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتنقص من هذا وتزيد في هذا ، وتخرج من ميت حيا ، ومن حيّ ميتا ، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك ، لا يقدر على ذلك أحد سواك ، ولا يستطيعه غيرك . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { تُولِجُ اللّيْلِ فِي النّهَارِ وتُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ وتُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ وتُخْرِجُ المَيّتُ مِنَ الحَيّ } أي بتلك القدرة ، يعني بالقدرة التي تؤتي الملك بها من تشاء وتنزعه ممن تشاء ، وترزق من تشاء بغير حساب ، لا يقدر على ذلك غيرك ولا يصنعه إلا أنت . أي فإن كنت سلطت عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إلَه ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، والخلق للطير من الطين ، والخبر عن الغيوب لتجعله آية للناس ، وتصديقا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه ، فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه ، كتمليك الملوك ، وأمر النبوّة ووضعها حيث شئت ، وإيلاج الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وإخراج الحيّ من الميت ، والميت من الحيّ ، ورزق من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب ، فكل ذلك لم أسلط عيسى عليه ، ولم أملكه إياه ، فلم يكن لهم في ذلك عبرة وبينة ، إذ لو كان إلَها لكان ذلك كله إليه وهو في علمهم يهرب من الملوك ، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد .
{ تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب } عقب ذلك ببيان قدرته على معاقبة الليل والنهار والموت والحياة وسعة فضله ، دلالة على أن من قدر على ذلك قدر على معاقبة الذل والعز وإيتاء الملك ونزعه . والولوج : الدخول في مضيق . وإيلاج الليل والنهار : إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة والنقص . وإخراج الحي من الميت وبالعكس . إنشاء الحيوانات من موادها وإماتتها ، أو إنشاء الحيوان من النطفة والنطفة منه . وقيل : إخراج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر { الميْت } بالتخفيف .
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في معنى قوله تعالى : { تولج الليل في النهار } الآية : أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار دأباً كل فصل من السنة ، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وتخرج الحي من الميت } الآية ، فقال الحسن : معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، وروي نحوه عن سلمان الفارسي ، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أزواجه فإذا بامرأة حسنة النغمة فقال : من هذه ؟ قالت إحدى خالاتك فقال : إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب ، أي خالاتي هي ؟ قالت : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث{[3068]} فقال النبي عليه السلام : سبحان الذي يخرج الحي من الميت{[3069]} ، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً وهو أحد المستهزئين الذين كفيهم النبي عليه السلام .
قال أبو محمد : فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن والحياة والموت مستعاران ، وذهب جمهور كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية إنما هو الحياة حقيقة والموت حقيقة لا باستعارة ، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال عكرمة : هو إخراج الدجاجة وهي حية من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ولفظ الإخراج في هذا المثال وما ناسبه لفظ متمكن على عرف استعماله ، وقال عبد الله بن مسعود في تفسير الآية : هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلاً إنما هو عبارة عن تغير الحال كما تقول في صبي جيد البنية : يخرج من هذا رجل قوي ، وهذا المعنى يسميه ابن جني : التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج ، وقد يحتمل قوله تعالى : { ويخرج الميت من الحي } أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك :
أَفَاءَتْ بَنُوا مَرْوانَ ظُلْماً دِمَاءَناَ*** وفي اللَّهِ إنْ لَمْ يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ{[3070]}
وروى السدي عن أبي مالك{[3071]} قال في تفسير الآية : هي الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة ، والنواة تخرج من النخلة والنخلة تخرج من النواة والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه ، وقوله تعالى : { بغير حساب } قيل معناه بغير حساب منك لأنه تعالى لا يخاف أن تنتقص خزائنه ، هذا قول الربيع وغيره ، وقيل معنى { بغير حساب } أي من أحد لك ، لأنه تعالى لا معقب لأمره ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : الميْت «بسكون الياء في جميع القرآن ، وروى حفص عن عاصم » من الميّت «بتشديد الياء ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي » الميّت «بتشديد الياء في هذه الآية ، وفي قوله : { لبلد ميت }{[3072]} ، و { إلى بلد ميت } [ فاطر : 9 ] وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف ، قال أبو علي : { الميت } هو الأصل والواو التي هي عين منه انقلبت ياء لإدغام الياء فيها وميت التخفيف محذوف منه عينه أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب ، والحذف حسن والإتمام حسن وما مات وما لم يمت في هذا الباب يستويان في الاستعمال .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذهب قوم إلى أن » الميْت «بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات ، وأما » الميّت «بالتشديد فيستعمل فيما مات وفيما لم يمت بعد .