ثم يعود إلى الحديث عن تلك الحقيقة الأولى :
( أم يقولون : افترى على الله كذبا ? فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ، ويحق الحق بكلماته ، إنه عليم بذات الصدور ) .
هنا يأتي على الشبهة الأخيرة ، التي قد يعللون بها موقفهم من ذلك الوحي ، الذي تحدث عن مصدره وعن طبيعته وعن غايته في الجولات الماضية :
( أم يقولون : افترى على الله كذبا ? ) . .
فهم من ثم لا يصدقونه ، لأنهم يزعمون أنه لم يوح إليه ، ولم يأته شيء من الله ?
ولكن هذا قول مردود . فما كان الله ليدع أحدا يدعي أن الله أوحى إليه ، وهو لم يوح إليه شيئاً ، وهو قادر على أن يختم على قلبه ، فلا ينطق بقرآن كهذا . وأن يكشف الباطل الذي جاء به ويمحوه . وأن يظهر الحق من ورائه ويثبته :
( فإن يشأ الله يختم على قلبك ، ويمح الله الباطل ، ويحق الحق بكلماته )
وما كان ليخفى عليه ما يدور في خلد محمد [ صلى الله عليه وسلم ] حتى قبل أن يقوله :
فهي شبهة لا قوام لها . وزعم لا يقوم على أساس . ودعوى تخالف المعهود عن علم الله بالسرائر ، وعن قدرته على ما يريد ، وعن سنته في إقرار الحق وإزهاق الباطل . . وإذن فهذا الوحي حق ، وقول محمد صدق ؛ وليس التقول عليه إلا الباطل والظلم والضلال . . وبذلك ينتهي القول - مؤقتاً - في الوحي . ويأخذ بهم في جولة أخرى وراء هذا القرار .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللّهُ يَخْتِمْ عَلَىَ قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقّ الْحَقّ بِكَلِمَاتِهِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ } .
يقول تعالى ذكره : أم يقول هؤلاء المشركون بالله : افْتَرَى محمد على اللّهِ كَذِبا فجاء بهذا الذي يتلوه علينا اختلاقا من قِبَل نفسه . وقوله : فَإنْ يَشأِ اللّهُ يا محمد يطبع على قلبك ، فتنس هذا القرآن الذي أُنزل إليك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أمْ يَقُولُونَ افْتَرَى على الله كَذِبا ، فإنْ يَشأ اللّهُ يَختْم على قَلْبكَ فينسيك القرآن .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : فإنْ يَشأ اللّهُ يَخْتمْ على قَلْبكَ قال : إن يشأ الله أنساك ما قد أتاك .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قول الله عزّ وجلّ : فإنْ يَشأ اللّهُ يَخْتمْ على قَلْبكَ قال : يطبع .
وقوله : ويَمْحُ اللّهُ الباطِلَ يقول : ويذهب الله بالباطل فيمحقه ويُحِقّ الحَقّ بكَلِماتِهِ التي أنزلها إليك يا محمد فيثبته .
وقوله : وَيمْحُ اللّهُ الباطِلَ في موضع رفع بالابتداء ، ولكنه حُذفت منه الواو في المصحف ، كما حُذفت من قوله : سَنَدْعُ الزّبانيَةَ ومن قوله : وَيَدْعُ الإنْسانُ بالشّرّ وليس بجزم على العطف على يختم .
وقوله : إنّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصّدُورِ يقول تعالى ذكره : إن الله ذو علم بما في صدور خلقه ، وما تنطوي عليه ضمائرهم ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء ، يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : لو حدّثت نفسك أن تفتري على الله كذبا ، لطبعت على قلبك ، وأذهبت الذي آتيتك من وحيي ، لأني أمحو الباطل فأذهبه ، وأحقّ الحقّ ، وإنما هذا إخبار من الله الكافرين به ، الزاعمين أن محمدا افترى هذا القرآن من قِبل نفسه ، فأخبرهم أنه إن فعل لفعل به ما أخبر به في هذه الاَية .
{ أم يقولون } بل أيقولون . { افترى على الله كذبا } افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن . { فإن يشإ الله يختم على قلبك } استبعاد للافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربه ، فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا ، وكأنه قال : إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه . وقيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه ، أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم . { ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور } استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده ، بمحو باطلهم وإثبات حقه بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له ، وسقوط الواو من { يمح } في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله تعالى : { ويدع الإنسان بالشر } .
{ أم } هذه أيضاً منقطعة مضمنة إضراباً عن كلام متقدم وتقريراً على هذه المقالة منهم .
وقوله تعالى : { فإن يشأ الله يختم } معناه في قول قتادة وفرقة من المفسرين : ينسيك القرآن ، والمراد الرد على مقالة الكفار وبيان إبطالها ، وذلك كأنه يقول : وكيف يصح أن تكون مفترياً وأنت من الله بمرأى ومسمع ، وهو قادر لو شاء على أن يختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك ، فمقصد اللفظ هذا المعنى وحذف ما يدل عليه الظاهر اختصاراً واقتصاراً . وقال مجاهد في كتاب الثعلبي وغيره ، المعنى : { فإن يشأ الله يختم على قلبك } بالصبر لأذى الكفار ويربط عليه بالجلد ، فهذا تأويل لا يتضمن الرد على مقالتهم .
وقوله تعالى : { ويمح } فعل مستقبل{[10137]} خبر من الله أنه يمحو الباطل ولا بد إما في الدنيا وإما في الآخرة ، وهذا بحسب نازلة . وكتبت { يمح } في المصحف بحاء مرسلة كما كتبوا : { ويدع الإنسان }{[10138]} إلى غير ذلك مما ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار{[10139]} .
وقوله : { بكلماته } معناه : بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء بالكلمات المعاني القائمة التي لا تبديل لها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.