ثم تختم الفقرة بميزان يقيمه الله للقيم ، ليزن به المسلم ويحكم . ميزان يرجح فيه الطيب ويشيل الخبيث . كي لا يخدع الخبيث المسلم بكثرته في أي وقت وفي أي حال ! ( قل : لا يستوي الخبيث والطيب ؛ ولو أعجبك كثرة الخبيث ، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ) . .
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق ، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام . والحرام خبيث ، والحلال طيب . . ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب . ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف ، وبلا عقابيل من ألم أو مرض . . وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة . . والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له ، يختار الطيب على الخبيث ؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة :
هذه هي المناسبة الحاضرة . . ولكن النص - بعد ذلك - أفسح مدى وأبعد أفقا . وهو يشمل الحياة جمعيا ، ويصدق في مواضع شتى :
لقد كان الله الذي أخرج هذه الأمة ، وجعلها خير أمة أخرجت للناس ، يعدها لأمر عظيم هائل . . كان يعدها لحمل أمانة منهجه في الأرض ، لتستقيم عليه كما لم تستقم أمة قط ، ولتقيمه في حياة الناس كما لم يقم كذلك قط . ولم يكن بد أن تراض هذه الأمة رياضة طويلة . رياضة تخلعها أولا من جاهليتها ؛ وترفعها من سفح الجاهلية الهابطة وتمضي بها صعدا في المرتقى الصاعد إلى قمة الإسلام الشامخة ثم تعكف بعد ذلك على تنقية تصوراتها وعاداتها ومشاعرها من رواسب الجاهلية ؛ وتربية إرادتها على حمل الحق وتبعاته . ثم تنتهي بها إلى تقييم الحياة جملة وتفصيلا وفق قيم الإسلام في ميزان الله . . حتى تكون ربانية حقا . . وحتى ترتفع بشريتها إلى أحسن تقويم . . وعندئذ لا يستوي في ميزانها الخبيث والطيب ؛ ولو أعجبها كثرة الخبيث ! والكثرة تأخذ العين وتهول الحس . ولكن تمييز الخبيث من الطيب ، وارتفاع النفس حتى تزنه بميزان الله ، يجعل كفة الخبيث تشيل مع كثرته ، وكفة الطيب ترجح على قلته . . وعندئذ تصبح هذه الأمة أمينة ومؤتمنة على القوامة . . القوامة على البشرية . . تزن لها بميزان الله ؛ وتقدر لها بقدر الله ؛ وتختار لها الطيب ، ولا تأخذ عينها ولا نفسها كثرة الخبيث !
وموقف آخر ينفع فيه هذا الميزان . . ذلك حين ينتفش الباطل ؛ فتراه النفوس رابيا ؛ وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته . . ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المنتفش ، فلا تضطرب يده ، ولا يزوغ بصره ، ولا يختل ميزانه ؛ ويختار عليه الحق الذي لا رغوة له ولا زبد ؛ ولا عدة حوله ولا عدد . . إنما هو الحق . . الحق المجرد إلا من صفته وذاته ؛ وإلا من ثقله في ميزان الله وثباته ؛ وإلا من جماله الذاتي وسلطانه !
لقد ربى الله هذه الأمة بمنهج القرآن ، وقوامة رسول الله [ ص ] حتى علم - سبحانه - أنها وصلت إلى المستوى الذي تؤتمن فيه على دين الله . . لا في نفوسها وضمائرها فحسب ، ولكن في حياتها ومعاشها في هذه الأرض ، بكل ما يضطرب في الحياة من رغبات ومطامع ، وإهواء ومشارب ، وتصادم بين المصالح ، وغلاب بين الأفراد والجماعات . ثم بعد ذلك في قوامتها على البشرية بكل ما لها من تبعات جسام في خضم الحياة العام .
لقد رباها بشتى التوجيهات ، وشتى المؤثرات ، وشتى الابتلاءات ، وشتى التشريعات ؛ وجعلها كلها حزمة واحدة تؤدي دورا في النهاية واحدا ، هو إعداد هذه الأمة بعقيدتها وتصوراتها ، وبمشاعرها واستجاباتها ، وبسلوكها وأخلاقها ، وبشريعتها ونظامها ، لأن تقوم على دين الله في الأرض ، ولأن تتولى القوامة على البشر . . وحقق الله ما يريده بهذه الأمة . . والله غالب على أمره . . وقامت في واقع الحياة الأرضية تلك الصورة الوضيئة من دين الله . . حلما يتمثل في واقع . . وتملك البشرية أن تترسمه في كل وقت حين تجاهد لبلوغه فيعينها الله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لاّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لا يعتدل الرديء والجيد ، والصالح والطالح ، والمطيع والعاصي . " وَلَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ " يقول : لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله ولو كثر أهل المعاصي فعجبت من كثرتهم ، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلوا دون أهل معصيته ، وإنّ أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا . يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : فلا تعجبنّ من كثرة من يعصى الله فيمهله ولا يعاجله بالعقوبة فإن العقبى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ " قال : الخبيث : هم المشركون والطيّب : هم المؤمنون .
وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمراد به بعض أتباعه ، يدلّ على ذلك قوله : " فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " .
القول في تأويل قوله تعالى : " فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " .
يقول تعالى ذكره : واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم ، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث ، فتصيروا منهم . " يا أولي الألْبابِ " يعني بذلك : أهل العقول والحجا ، الذين عقلوا عن الله آياته ، وعرفوا مواقع حججه . " لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " يقول : اتقوا الله لتفلحوا : أي كي تنجحوا في طلبتكم ما عنده .
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب } حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها ، رغب به في مصالح العمل وحلال المال . { ولو أعجبك كثرة الخبيث } فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة ، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير ، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر ، وآثروا الطيب وإن قل . { لعلكم تفلحون } راجين أن تبلغوا الفلاح . روي : أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه ، وإن كانوا مشركين .
وقوله { هل يستوي } الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها ، ف { الخبيث } من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة ، { والطيب } ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً }{[4739]} والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك ، وهكذا هو الخبث في الإنسان ، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان فساد نسبه ، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد ، وقوله تعالى { فاتقوا الله يا أولي الألباب } تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل ، وخص { أولي الألباب } بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم ، وكأن الإشارة بهذه { الألباب } إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد .