سورة يس مكية وآياتها ثلاث وثمانون
هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة . وإيقاعات سريعة . ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثاً وثمانين ، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها - سورة فاطر - وعدد آياتها خمس وأربعون .
وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص ، فتتلاحق إيقاعاتها ، وتدق على الحس دقات متوالية ، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها . وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار .
والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية . وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة . فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها : ( يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم . . . ) . وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة ؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه . وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته : ( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .
كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية . فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ? أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ? إني إذاً لفي ضلال مبين . . وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى : ( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون . لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ) . .
والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور ، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة . تجيء في أولها : ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) . . وتأتي في قصة أصحاب القرية ، فيما وقع للرجل المؤمن . وقد كان جزاؤها العاجل في السياق : ( قيل : ادخل الجنة . قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) . . ثم ترد في وسط السورة : ( ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) . . ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة . وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . .
هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها ، تتكرر في السور المكية . ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين ، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها ، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها .
هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة - بصفة خاصة - ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها . ومن مصارع الغابرين على مدار القرون . ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية : مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة . ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام . ومشهد الشمس تجري لمستقر لها . ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم . ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين . ومشهد الأنعام مسخّرة للآدميين . ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين ! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون !
وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه : منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ؛ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) . ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار . . ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . . وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود .
ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط :
يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين : يا . سين وبالقرآن الحكيم ، على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه على صراط مستقيم . يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون . وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلاً ، وأن يحال بينهم وبينها أبداً . وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان . . ثم يوجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى أن يضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين . كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق . .
ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به . غير معتبرين بمصارع المكذبين ، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير . . وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة ، كما يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل .
والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها . فينفي في أوله أن ما جاء به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] شعر ، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلاً . ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة ! . ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة ! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد ! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة . . وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون . فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) .
( يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون . وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم . إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين . . )
يقسم الله سبحانه بهذين الحرفين : يا . سين كما يقسم بالقرآن الحكيم . وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور ؛ والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن . وأن آية كونه من عند الله ، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها ، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم ؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف .
القول في تأويل قوله تعالى : { يسَ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : يس ، فقال بعضهم : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يس قال : فإنه قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله .
وقال آخرون : معناه : يا رجل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو تُمَيلة ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله يس قال : يا إنسان ، بالحبشية .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن شرقيّ ، قال : سمعت عكرمة يقول : تفسير يس : يا إنسان .
وقال آخرون : هو مفتاح كلام افتتح الله به كلامه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : يس مفتاح كلام ، افتتح الله به كلامه .
وقال آخرون : بل هو اسم من أسماء القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يس قال : كلّ هجاء في القرآن اسم من أسماء القرآن .
قال أبو جعفر : وقد بيّنا القول فيما مضى في نظائر ذلك من حروف الهجاء بما أغنى عن إعادته وتكريره في هذا الموضع .
سورة يس مكية وعنه عليه الصلاة والسلام " يس تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة " وآيها ثلاث وثمانون .
بسم الله الرحمن الرحيم { يس } في المعنى والإعراب ، وقيل معناه يا إنسان بلغة طيئ على أنه أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل ( من الله ) في أيمن . وقرئ بالكسر كجير وبالفتح على البناء كأين ، أو الإعراب على تل يس أو بإضمار حرف القسم والفتحة لمنع الصرف وبالضم بناء كحيث ، أو إعرابا على هذه { يس } وأمال الياء حمزة والكسائي وروح وأبو بكر وأدغم النون في واو .