السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

مكية وهي ثلاث وثمانون آية ، وسبعمائة وتسعة وعشرون كلمة ، وثلاثة آلاف حرف .

وتسمى أيضاً : القلب والدافعة والقاضية والمعممة تعم صاحبها بخير الدارين ، وتدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة ، والبيضاوي ذكر هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره ولكن المثبت مقدم على النافي .

{ بسم الله } أي : الذي جل ملكه على أن يحاط بمقدراه { الرحمان } الذي جعل إنذار يوم الجمع رحمة عامة { الرحيم } الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه .

وقوله تعالى : { يس } ك { ألم } في المعنى والإعراب وقال ابن عباس : يس قسم ، وروي عن شعبة أن معناه يا إنسان بلغة طيِّىء على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل : م الله في أيمن الله ، وقال أكثر المفسرين : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسعيد بن جبير وجماعة وقال أبو العالية : يا رجل وقال أبو بكر الوراق : يا سيد البشر .

قال ابن عادل في ذكر هذه الحروف أوائل السور : أمور تدل على أنها غير خالية من الحكمة ، لكن علم الإنسان لا يصل إليها والذي يدل على أنها فيها حكمة هو أن الله عز وجل ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً نصف ثمانية وعشرين حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا : الهمزة ألف متحركة ، ثم إن الله تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال ، والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرة في الوسط من الراء إلى الغين ، وذكر من القسم الأول حرفين الألف والحاء ، وترك سبعة وترك من القسم الأخير حرفين هما الألف واللام ، وذكر سبعة ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ، ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشفة إلا واحداً لم يتركه وهو الميم والعشر الأوسط ذكر منه حرفاً وترك حرفاً فترك الزاي وذكر الراء ، وذكر السين وترك الشين وذكر الصاد وترك الضاد وذكر الطاء وترك الظاء وذكر العين وترك الغين ، وليس لها أمر يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة لكنها غير معلومة .

وهب أن واحداً يدعي فيه شيئاً فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن و ق و ص ، وبعضها بحرفين كسورة حم ويس وطس وطه ، وبعضها بثلاثة أحرف كألم وطسم والر ، وبعضها بأربعة أحرف كسورة المر والمص ، وبعضها بخمسة أحرف كسورة حم عسق وكهعيص .

وهب أن قائلاً يقول : إن هذه إشارة بأن الكلام إما حرف وإما فعل وإما اسم ، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب وهمزة الاستفهام وكاف التشبيه وباء الإلصاق وغيرها ، وجاء على حرفين كمن للتبعيض وأو للتخيير وأم للاستفهام المتوسط وإن للشرط وغيرها ، والفعل والاسم والحرف جاءت ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألوا بالواو ، وعلا يعلو في الفعل والاسم ، والفعل جاء على أربعة أحرف ، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة كعجل ومسجد وجردحل .

فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد والبعض بأكثر فلا يعلم ما السر إلا الله تعالى ، ومن أعلمه الله تعالى به .

وإذا علم هذا فالعبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ، وكل واحد منها قسمان : قسم عقل معناه وحقيقته ، وقسم لم يعلم ، أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل فمنها ما لم يعلم دليله عقلاً ، وإنما وجب الإيمان به والاعتقاد سمعاً كالصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف ، والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر ، وكيفية الجنة والنار ، فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي ، وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم مقطوع به بالسمع ، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله تعالى وصدق الرسل ، وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات .

والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان إلا لمحض الفائدة بخلاف ما لم تعلم الفائدة ، فربما تأتي الفائدة وإن لم يؤمر كما لو قال السيد لعبده : انقل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ، ولو قال : انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمر .

وإذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهي فإذا قال : حم طس يس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالاً لما أمر به ، انتهى كلام ابن عادل بحروفه وهو كلام دقيق ، وقرأ يس بإمالة الياء شعبة وحمزة والكسائي ، والباقون بالفتح ، وأظهر النون من يس عند واو .