سنعرف من بعد أنهما من خدم الملك الخواص . .
ويختصر السياق ما كان من أمر يوسف في السجن ، وما ظهر من صلاحه وإحسانه ، فوجه إليه الأنظار ، وجعله موضع ثقة المساجين ، وفيهم الكثيرون ممن ساقهم سوء الطالع مثله للعمل في القصر أو الحاشية ، فغضب عليهم في نزوة عارضة ، فألقي بهم في السجن . . يختصر السياق هذا كله ليعرض مشهد يوسف في السجن وإلى جواره فتيان أنسا إليه ، فهما يقصان عليه رؤيا رأياها . ويطلبان إليه تعبيرها ، لما يتوسمانه فيه من الطيبة والصلاح وإحسان العبادة والذكر والسلوك :
( قال أحدهما : إني أراني أعصر خمرا ؛ وقال الآخر : إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه . نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنّيَ أَرَانِيَ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَخَرُ إِنّي أَرَانِيَ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : { ودخل مع يوسف السجن فتيان } ، فدلّ بذلك على متروك قد ترك من الكلام ، وهو : { ثُمّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الاَياتِ لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ } ، فسجنوه ، وأدخلوه السجن ، { ودخل معه فتيان } ، فاستغنى بدليل قوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيانِ } ، على إدخالهم يوسف السجن من ذكره . وكان الفتيان فيما ذكر : غلامين من غلمان ملك مصر الأكبر : أحدهما : صاحب شرابه ، والآخر : صاحب طعامه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فطرح في السجن ، يعني : يوسف ، { ودخل معه السجن فتيان } : غلامان كانا للملك الأكبر : الريان بن الوليد ، كان أحدهما على شرابه ، والآخر على بعض أمره ، في سخطة سخطها عليهما ، اسم أحدهما : مجلث ، والآخر : نبو ، ونبو الذي كان على الشراب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيانِ } ، قال : كان أحدهما خبازا للملك على طعامه ، وكان الآخر ساقيه على شرابه .
وكان سبب حبس الملك الفتيين ، فيما ذكر ، ما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : إن الملك غضب على خبازه ، بلغه أنه يريد أن يسمّه ، فحبسه ، وحبس صاحب شرابه ، ظنّ أنه مالأه على ذلك ، فحبسهما جميعا ؛ فذلك قول الله تعالى : { ودخل معه السجن فتيان } .
وقوله : { قالَ أحَدُهُما إنّي أرَانِي أعْصِرُ خَمْرا } ، ذكر أن يوسف صلوات الله وسلامه عليه لما أدخل السجن ، قال لمن فيه من المحبّسين ، وسألوه عن عمله : إني أعبر الرؤيا ، فقال أحد الفتيين اللذين أدخلا معه السجن لصاحبه : تعال فلنجرّبه . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما دخل يوسف السجن قال : أنا أعبر الأحلام . فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلمّ نجرّب هذا العبد العبرانيّ نتراءى له ، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا . فقال الخباز : { إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه } ، { وقال الاَخر : إني أراني أعصر خمرا } .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله ، قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، وإنما كانا تحالُما ليجرّبا علمه .
وقال قوم : إنما سأله الفتيان عن رؤيا كانا رأياها على صحة وحقيقة ، وعلى تصديق منهما ليوسف لعلمه بتعبيرها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما رأى الفتيان يوسف ، قالا : والله يا فتى لقد أحببناك حين رأيناك .
قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أن يوسف قال لهم حين قالا له ذلك : أنشدكما الله أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قطّ إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء ، ثم لقد أحبني أبي فدخل عليّ بحبه بلاء ، ثم لقد أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل عليّ بحبها إياي بلاء ، فلا تحباني بارك الله فيكما . قال : فأبيا إلا حبه وإلفه حيث كان ، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله ، وقد كانا رأيا حين أدخلا السجن رؤيا ، فرأى «مجلث » أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه ، ورأى «نبو » أنه يعصر خمرا ، فاستفتياه فيها ، وقالا له : { نَبّئْنا بتأْوِيلِهِ إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، إن فعلت .
وعنى بقوله : { أعْصِرُ خَمْرا } ، أي : إني أرى في نومي أني أعصر عنبا . وكذلك ذلك في قراءة ابن مسعود فيما ذكر عنه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي سلمة الصائغ ، عن إبراهيم بن بشير الأنصاريّ ، عن محمد بن الحنفية قال في قراءة ابن مسعود : { إنّي أَرَانِي أعْصِرُ عِنَبا } .
وذكر أن ذلك من لغة أهل عُمان ، وأنهم يسمون العنب خمرا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إنّي أرَاني أعْصِرُ خَمْرا } ، يقول : أعصر عنبا ، وهو بلغة أهل عُمان ، يسمون العنب خمرا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع وثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : { إنّي أرَاني أعْصِرُ خَمْرا } ، قال : عنبا ، أرض كذا وكذا يدعون العنب خمرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { إنّي أرَاني أعْصِرُ خَمْرا } ، قال : عنبا .
حُدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي حمزة ، عن عكرمة ، قال : أتاه ، فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حَبَلَةً من عنب ، فنبتت ، فخرج فيه عناقيد ، فعصرتهن ، ثم سقيتهنّ الملك ، فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج ، فتسقيه خمرا .
وقوله : { وَقالَ الآخَرُ إني أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رأسِي خُبْزا تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنا بتأْوِيلهِ } ، يقول تعالى ذكره : وقال الآخر من الفتيين : إني أراني في منامي أحمل فوق رأسي خبزا ، يقول : أحمل على رأسي ، فوضعت «فوق » مكان «على » ، { تَأْكُلُ الطّيْرُ مِنْهُ } ، يعني : من الخبز .
وقوله : { نَبّئْنا بتَأْوِيلِهِ } ، يقول : أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا ويرجع إليه . كما :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { نَبّئْنا بتَأْوِيلِهِ } ، قال : به . قال الحارث ، قال أبو عبيد ، يعني : مجاهد : أن تأويل الشيء : هو الشيء . قال : ومنه تأويل الرؤيا ، إنما هو الشيء الذي تئول إليه .
وقوله : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، اختلف أهل التأويل في معنى الإحسان الذي وصف به الفتيان يوسف :
فقال بعضهم : هو أنه كان يعود مريضهم ، ويعزي حزينهم ، وإذا احتاج منهم إنسان جمَع له .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : كنت جالسا معه ببلخ ، فسئل عن قوله : { نَبّئْنا بَتأْوِيلِهِ إنّا نَرَاكَ مِن المُحْسِنِينَ } ، قال : قيل له : ما كان إحسان يوسف ؟ قال : كان إذا مرض إنسان قام عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق أوسع له .
حدثنا إسحاق ، عن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك ، قال : سأل رجل الضحاك عن قوله : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، ما كان إحسانه ؟ قال : كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه ، وإذا احتاج جمع له ، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، عن قتادة ، قوله : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، قال : بلغنا أن إحسانه أنه كان يداوي مريضهم ، ويعزّي حزينهم ، ويجتهد لربه . وقال : لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم ، فطال حزنهم ، فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، إن لهذا أجرا ، إن لهذا ثوابا ، فقالوا : يا فتى ، بارك الله فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك ! لقد بورك لنا في جوارك ، ما نحبّ أنا كنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا من الأجر والكفّارة والطهارة ، فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ابن صفيّ الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله . وكانت عليه محبة ، وقال له عامل السجن : يا فتى ، والله لو استطعت لخليت سبيلك ، ولكن سأحسن جوارك وأحسن إسارك ، فكن في أيّ بيوت السجن شئت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن خلف الأشجعي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك في : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، قال : كان يوسع للرجل في مجلسه ، ويتعاهد المرضى .
وقال آخرون : معناه : { إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، إذ نبأتنا بتأويل رؤيانا هذه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : استفتياه في رؤياهما ، وقالا له : { نَبَئّنْا بتَأْوِيلِهِ إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ } ، إن فعلت .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الضحاك وقتادة .
فإن قال قائل : وما وجه الكلام إن كان الأمر إذن كما قلت ، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض ويقوم عليه ويحسن إلى من احتاج في شيء ، وإنما يقال للرجل : نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم ، وهذا من المواضع التي تحسن بالوصف بالعلم لا بغيره ؟
قيل : إن وجه ذلك أنهما قالا له : نبئنا بتأويل رؤيانا محسنا إلينا في إخبارك إيانا بذلك ، كما نراك تحسن في سائر أفعالك ، { إنا نراك من المحسنين } .