وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي . تاركا فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة . ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك . ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا ، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها . وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها . . كل أولئك يحذفه السياق من المشهد ، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف ، وأمره أن يأتوه به :
( وقال الملك : ائتوني به ) . .
ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر . ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف : إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة . أو رسولا تنفيذيا مكلفا بمثل هذا الشأن . نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته ، ويتبين الحق واضحا في موقفه ، وتعلن براءته - على الأشهاد - من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام . . لقد رباه ربه وأدبه . ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة . فلم يعد معجلا ولا عجولا !
" إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين : الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى : اذكرني عند ربك ، والموقف الذي يقول له فيه : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ، والفارق بين الموقفين بعيد . .
( قال : ارجع إلى ربك فاسأله : ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ؟ إن ربي بكيدهن عليم )
لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره ، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن . . بهذا القيد . . تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها . . وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة ، دون أن يتدخل هو في مناقشتها . . كل أولئك لأنه واثق من نفسه ، واثق من براءته ، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلا ، ولا يخذل طويلا .
ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة ( رب ) بمدلولها الكامل ، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه . فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه . والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمّا جَآءَهُ الرّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىَ رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أَيْدِيَهُنّ إِنّ رَبّي بِكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : فلما رجع الرسول الذي أرسلوه إلى يوسف ، الذي قال : أنا أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فأرْسِلُونِ فأخبرهم بتأويل رؤيا الملك عن يوسف ، علم الملك حقيقة ما أفتاه به من تأويل رؤياه وصحة ذلك ، وقال الملك : ائتوني بالذي عَبَر رؤياي هذه . كالذي :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فخرج «نبو » من عند يوسف بما أفتاهم به من تأويل رؤيا الملك حتى أتى الملك ، فأخيره بما قال ، فلما أخبره بما في نفسه كمثل النهار وعرف أن الذي قال كائن كما قال ، قال : ائتوني به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتى الملكَ رسولُه ، قال : ائتوني به .
وقوله : فَلَمّا جاءَهُ الرّسُولُ يقول : فلما جاءه رسول الملك يدعوه إلى الملك ، قالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ يقول : قال يوسف للرسول : ارجع إلى سيدك فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . وأبى أن يخرج مع الرسول وإجابة الملك حتى يعرف صحة أمره عندهم مما كانوا قذفوه به من شأن النساء ، فقال للرسول : سل الملك ما شأن النسوة اللاتي قطّعن أيدَيهن ، والمرأة التي سُجِنتُ بسببها كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : فَلَمّا جاءَهُ الرّسُولُ قالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ والمرأة التي سجنت بسبب أمرها عما كان من ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أتى الملك رسوله فأخبره قالَ ائْتُونِي بِهِ فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك أبى يوسف الخروج معه ، وقال : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . . . الآية ، قال السديّ ، قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة ، يقول : هذا الذي راود امرأته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن رجل ، عن أبي الزناد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَرْحَمُ اللّهُ يُوسُفَ إنْ كانَ ذَا أناةٍ ، لَوْ كُنْتُ أنا المَحْبُوسَ ثُمّ أُرْسِلَ إليّ لَخَرَجْتُ سَرِيعا ، إنْ كان لَحَلِيما ذَا أناةٍ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ ثُمّ جاءَنِي الدّاعِي لأَجَبْتُهُ ، إذْ جاءَهُ الرّسُولُ فَقالَ ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ » . . . الآية .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلاد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا زكريا بن أبان المقريء ، قال : حدثنا سعيد بن تليد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن القاسم ، قال : ثني بكر بن مُضَر ، عن عمرو بن الحارث ، عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ ما لَبِثَ يُوسُفُ لاَءَجَبْتُ الدّاعِيَ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا حماد ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرأ هذه الآية : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ إنّ رَبّي بكَيْدِهُنّ عَليمٌ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ كُنْت أنا لأَسْرَعْتُ الإجابَةَ ، وَما ابْتَغَيْتُ العُذْرَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . ومحمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ . . . . الآية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لَوْ بُعِثَ إليّ لأَسْرَعْتُ فِي الإجابَةِ وَما ابْتَغَيْتُ العُذْرَ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ عَجبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وكَرَمِهِ ، وَاللّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ سُئِلَ عَن البَقَرَاتِ العِجافِ والسّمانِ ، وَلَوْ كُنْتُ مَكانَهُ ما أخْبَرْتُهُمْ بِشَيْءٍ حتى أشْتَرِطَ أنْ يُخْرِجُونِي وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسفَ وَصَبْرِهِ وكرَمِهِ واللّهُ يَغْفِرُ لَهُ حِينَ أتاهُ الرّسُولُ ، وَلَوْ كُنْتُ مَكانَهُ لَبادَرْتُهُمُ البابَ ، وَلكنّهُ أرَادَ أنْ يَكُونَ لَهُ العُذْرُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ارْجِعْ إلى رَبكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ أراد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج حتى يكون له العذر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ارْجِعْ إلى رَبّكَ فاسألْهُ ما بالُ النّسْوَةِ اللاّتِي قَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن .
وقوله : إنّ رَبّي بكَيْدِهِنّ عَلِيمٌ يقول : إن الله تعالى ذكره ذو علم بصنيعهنّ وأفعالهن التي فعلن بي ويفعلن بغيري من الناس ، لا يخفي عليه ذلك كله ، وهو من وراء جزائهنّ على ذلك . وقيل : إن معنى ذلك : إن سيدي إطفير العزيز زوج المرأة التي راودتني عن نفسي ذو علم ببراءتي مما قذفتني به من السوء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.