في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡهِ يَرۡجِعُونَ} (58)

48

( فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ) . .

وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة . . إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم ( لعلهم إليه يرجعون ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغارر الآلهة ! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها ، فيرجعون إلى صوابهم ، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت .

وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا إلا ذلك الكبير ! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها : إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا . وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها ? لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال ، لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير ، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡهِ يَرۡجِعُونَ} (58)

وقوله : فَجَعَلَهُمْ جُذَاذا إلاّ كَبِيرا لَهُمْ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي : «فَجَعَلَهُمْ جِذَاذا » بمعنى جمع جذيذ ، كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجِذاذ ، كما يجمع الخفيف خِفاف ، والكريم كِرام .

وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه : جُذَاذا بضمّ الجيم ، لإجماع قرّاء الأمصار عليه ، وأن ما أجمعت عليه فهو الصواب وهو إذا قرىء كذلك مصدرٌ مثل الرّفات ، والفُتات ، والدّقاق لا واحد له ، وأما من كسر الجيم فإنه جمع للجذيذ ، والجذيذ : هو فعيل صُرِف من مجذوذ إليه ، مثل كسير وهشيم ، والمجذوذة : المكسورة قِطَعا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فجَعَلَهُمْ جُذَاذا يقول : حُطاما .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : جُذَاذا كالصّريم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فَجَعَلَهُمْ جُذَاذا : أي قطعا .

وكان سبب فعل إبراهيم صلوات الله عليه بآلهة قومه ذلك ، كما :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : أن إبراهيم قال له أبوه : يا إبراهيم إن لنا عيدا لو قد خرجت معنا إليه قد أعجبك ديننا فلما كان يوم العيد ، فخرجوا إليه ، خرج معهم إبراهيم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إني سقيم ، يقول : أشتكى رجلي . فتواطئوا رجليه وهو صريع فلما مضوا نادى في آخرهم ، وقد بقي ضَعْفَي الناس : وَتاللّهِ لأَكِيدَنّ أصْنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلّوْا مُدْبِرِينَ فسمعوها منه . ثم رجع إبراهيم إلى بيت الاَلهة ، فإذا هنّ في بهو عظيم ، مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى بعض ، كل صنم يليه أصغر منه ، حتى بلغوا باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاما ، فوضعوه بين أيدي الاَلهة ، قالوا : إذا كان حين نرجع رجعنا وقد باركت الاَلهة في طعامنا فأكَلْنا . فلما نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قالَ ألا تَأْكُلُونَ ؟ فلما لم تجبه ، قال : ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبا بالْيَمِينِ فأخذ فأس حديد ، فنقر كلّ صنم في حافتيه ، ثم علقّ الفأس في عنق الصنم الأكبر ، ثم خرج . فلما جاء القوم إلى طعامهم نظروا إلى آلهتهم قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إنّهُ لِمِنَ الظّالِمِينَ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبْرَاهِيمُ .

وقوله : إلاّ كَبِيرا لَهُمْ يقول : إلا عظيما للاَلهة ، فإن إبراهيم لم يكسره ، ولكنه فيما ذكر علق الفأس في عنقه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : إلاّ كَبِيرا لَهُمْ قال : قال ابن عباس : إلا عظيما لهم عظيم آلهتهم . قال ابن جُرَيْج ، وقال مجاهد : وجعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مُسْندة إلى صدر كبيرهم الذي تَرَك .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : جعل إبراهيم الفأس التي أهلك بها أصنامهم مسندة إلى صدر كبيرهم الذي ترك .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أقبل عليهنّ كما قال الله تبارك وتعالى ضَرْبا باليَمِينِ ثم جعل يكسرهنّ بفأس في يده ، حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ، ثم تركهنّ . فلما رجع قومه ، رأوا ما صنع بأصنامهم ، فراعهم ذلك وأعظموه وقالوا : من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين .

وقوله لَعَلّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ يقول : فعل ذلك إبراهيم بآلهتهم لعيتبروا ويعلموا أنها إذا لم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيم ، فهي من أن تدفع عن غيرها من أراده بسوء أبعد ، فيرجعوا عما هم عليه مقيمون من عبادتها إلى ما هو عليه من دينه وتوحيد الله والبراءة من الأوثان .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة : لَعَلّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ قال : كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون .