سورة البروج مكية وآياتها ثنتان وعشرون
هذه السورة القصيرة تعرض ، حقائق العقيدة ، وقواعد التصور الإيماني . . أمورا عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى ، وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية - وأحيانا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة . .
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود . . والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنهم من النصارى الموحدين - ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين ، وأرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقا في الأرض ، وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنةبهذه الطريقة البشعة ، ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق . حريق الآدميين المؤمنين : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) . .
تبدأ السورة بقسم : ( والسماء ذات البروج ، واليوم الموعود ، وشاهد ومشهود ، قتل أصحاب الأخدود . . )فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه . . تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة ، تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل . . مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها ، وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعا . والتلميح إلى بشاعة الفعلة ، وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل ، إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين : ( النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ) . .
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل :
إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض : الله( الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد ) . .
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة ؛ وإلى نعيم الجنة . . ذلك الفوز الكبير . . الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير ) . .
وتلويح ببطش الله الشديد ، الذي يبدئ ويعيد : ( إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد ) . . وهي حقيقة تتصل اتصالا مباشرا بالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة . .
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمرا . .
( وهو الغفور الودود )الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح !
( ذو العرش المجيد . فعال لما يريد ) . . وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والقدرة المطلقة ، والإرادة المطلقة . . وكلها ذات اتصال بالحادث . . كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح . . ( هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود ? )وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . ووراءهما - مع حادث الأخدود - إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون : ( بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط ) . .
ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) . . مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور .
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد . تمهد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل :
تبدأ السورة - قبل الإشارة إلى حادث الأخدود - بهذا القسم : بالسماء ذات البروج ، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية ، كما قال : ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ) . . وكما قال( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ) . . وإما أن تكون هي المنازل التي تتنقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها ، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء . والإشارة إليها يوحي بالضخامة . وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو .
سورة البروج{[1]}
مقصودها الدلالة على القدرة على مقصود الانشقاق الذي هو صريح آخرها من تنعيم الولي وتعذيب الشقي{[2]} في الدنيا ممن لا يمكن في العادة أن يكون عذابه ذلك إلا من الله وحده تسلية لقلوب المؤمنين وتثبيتا{[3]} لهم على أذى الكافرين{[4]} ، وعلى ذلك دل اسمها البروج بتأمل القسم والمقسم عليه وما هدى ذلك السياق إليه{[5]} { بسم الله } الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما { الرحمن } الذي عم الخلائق عدلا وحلما { الرحيم* } الذي خص أولياءه بإتمام النعمة عليهم عينا كما أظهره رسما .
لما ختم تلك بثواب المؤمن وعقاب الكافر والاستهزاء به بعد أن ذكر أنه سبحانه أعلم بما يضمر الأعداء من المكر وما يرومون من الأنكاد للأولياء وتوعدهم بما لا يطيقون ، وكانوا قد عذبوا المؤمنين بأنواع العذاب واجتهدوا في فتنة من قدروا عليه منهم ، وبالغوا في التضييق عليهم حتى ألجؤوهم إلى شعب أبي طالب وغيره من البروج في البلاد ، ومفارقة الأهل والأولاد ، ابتدأ هذه بما أوقع{[72453]} بأهل الجبروت ممن تقدمهم على وجه معلم أن ذلك الإيقاع منه سبحانه قطعاً ، ومعلم أن الماضين تجاوزوا ما فعل هؤلاء إلى القذف في النار ، وأن أهل الإيمان ثبتوا ، وذلك لتسلية المؤمنين وتثبيتهم ، وتوعيد الكافرين وتوهيتهم وتفتيتهم ، فقال مقسماً لأجل إنكارهم وفعلهم{[72454]} في التمادي في عداوة حزب الله فعل المنكر أن الله ينتقم لهم{[72455]} بما يدل على تمام القدرة على القيامة : { والسماء } أي العالية غاية العلو المحكمة غاية الإحكام{[72456]} { ذات البروج * } أي المنازل{[72457]} للكواكب السيارة التي ركبها الله تعالى على أوضاع{[72458]} جعل في بعضها{[72459]} قوة التسبب للإبداء والإعادة بالإنبات{[72460]} وفي بعضها قوة التربية كذلك ، وفي الأخرى قوة الاستحصاد بأسباب خفية أقامها سبحانه لا ترونها ، غير أنكم لكثرة إلفكم لذلك صرتم تدركون منه بالتجارب أموراً تدلكم على تمام القدرة ، فنسبها بعضكم إلى الطبيعة لقصور النظر في أسباب الأسباب وكلال الفكر عن النفوذ إلى نهاية ما تصل إليه الألباب ، فاستبدل بالشكر الكفر ، واستدل بالآيات على ضد ما تدل{[72461]} عليه لجمود الذهن وانعكاس الفكر ، والمراد بها المنازل الاثنا عشر{[72462]} : الحمل - والثور - والجوزاء - والسرطان - والأسد - والسنبلة - والميزان - والعقرب - والقوس - والجدي - والدلو - والحوت - وهي التي تقطعها الشمس في السنة-{[72463]} ، أو هي الثمانية والعشرون التي يقطعها القمر في الشهر ، وهي{[72464]} منازل الشمس هذه الاثنا عشر{[72465]} بسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثاً ، فذلك ثمانية وعشرون يوماً-{[72466]} ويستسر{[72467]} ليلتين ، فذلك شهر ، وهو إشارة إلى أن الذي فصل السماء هذا التفصيل وسخر فيها هذه الكواكب لمصالح الإنسان لا يتركه سدىً ، بل لا بد من دينونته على ما يفعله من خير وشر شبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة وتكون فيها الثوابت وعظام الكواكب ، سميت بروجاً لظهورها ، أو أبواب السماء فإن النوازل تخرج منها ، وأصل التركيب للظهور .
هذه السورة مكية وهي ثنتان وعشرون آية . وهي تقص علينا خبرا من أخبار الطغاة الظالمين السابقين الذين نكلوا بالمؤمنين في اليمن أشد تنكيل ، إذ شقوا لهم في الأرض أخاديد ثم أوقدوا فيها نارا متأججة فألقوهم فيها فاحترقوا .
وذلك لإيمانهم بربهم وإصرارهم على الثبات على عقيدة التوحيد . فلم يثنهم التهديد والتخويف بالتحريق ، عن الاستمساك بدينهم حتى الموت ، بل آثروا التعذيب بالنار على الكفر والزيغ عن دين الله .
وهذه فعلة بشعة نكراء تلبّس بارتكابها المجرمون من عتاة البشر ، وهم في غاية الظلم المغالي الذي تغيض فيه كل أثارة من أثارات الرحمة ، والذي يتقمّص فيه الظالمون الأشرار طبائع الوحوش الكاسرة في غابات الظلام .
ومن أجل هذا الإجرام الفظيع والعدوان الصارخ على المؤمنين المعذبين الصابرين يقسم الله بالسماء وبروجها وبالقيامة الموعودة وبالشاهد والمشهود على أن بطشه شديد أليم وأنه العزيز الجبار المنتقم لعباده المؤمنين المبتلين ، من المجرمين الظالمين .
{ والسماء ذات البروج 1 واليوم الموعود 2 وشاهد ومشهود 3 قتل أصحاب الأخدود 4 النار ذات الوقود 5 إذ هم عليها قعود 6 وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود 7 وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد 8 الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد 9 إن الذين فتنوا المؤمنين ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق 10 إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير } .
نزلت في نصارى نجران إذ دعاهم رجل ممن كان على دين عيسى ( عليه السلام ) فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنوده من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثنى عشر ألفا في الأخاديد . وقيل ، سبعون ألفا{[4793]} .
وهذه فعلة أليمة فظيعة تقشعر لبشاعتها الجلود والأبدان ، وتنفر منها المشاعر والضمائر . وذلك هو ديدن الأشقياء الكفرة من أعداء الله في كل زمان ، أولئك الذين يعذبون المؤمنين من عباد الله من أجل استمساكهم بعقيدة الحق . عقيدة التوحيد الخالص والإذعان الكامل لله وحده .
ومن أجل هذه الفعلة الأثيمة المنكرة أقسم الله قسمه الكريم العظيم ليبطشنّ بالقتلة المجرمين الذين عذبوا المؤمنين الموحدين من قوم عيسى ( عليه السلام ) فأحرقوهم إحراقا . وهو قوله سبحانه متوعدا متهددا هؤلاء الطغاة المجرمين { والسماء ذات البروج } أقسم الله بالسماء ذات البروج . والمراد بالبروج النجوم . أي : والسماء ذات النجوم . وقيل : البروج : منازل الكواكب وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا وهي : برج الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والعقرب ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والقوس .