( ومن شر غاسق إذا وقب ) . . والغاسق في اللغة الدافق ، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء . والمقصود هنا - غالبا - هو الليل وما فيه . الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة . والليل حينئذ مخوف بذاته . فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء : من وحش مفترس يهجم . ومتلصص فاتك يقتحم . وعدو مخادع يتمكن . وحشرة سامة تزحف . ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل ، وتخنق المشاعر والوجدان ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء . ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام . ومن ظاهر وخاف يدب ويثب ، في الغاسق إذا وقب !
الخامسة : قوله تعالى : " { ومن شر غاسق إذا وقب } اختلف فيه ، فقيل : هو الليل . والغسق : أول ظلمة الليل ، يقال منه : غسق الليل يغسق أي أظلم . قال ابن قيس الرقيات :
إن هذا الليلَ قد غَسَقَا *** واشتكيتُ الهَمَّ والأَرَقَا
يا طيفَ هندٍ لقد أبقَيْتَ لي أَرَقَا *** إذ جئتنا طارِقًا والليلُ قد غَسَقَا
هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم . و " وقب " على هذا التفسير : أظلم ، قاله ابن عباس . والضحاك : دخل . قتادة : ذهب . يمان بن رئاب : سكن . وقيل : نزل ، يقال : وقب العذاب على الكافرين ، نزل . قال الشاعر :
وَقَبَ العذابُ عليهم فكأنهم *** لَحِقَتْهُمْ نارُ السموم فَأُحْصِدُوا
وقال الزجاج : قيل : الليل غاسق ؛ لأنه أبرد من النهار . والغاسق : البارد . والغسق : البرد ، ولأن في الليل تخرج السباع من آجامها ، والهوام من أماكنها ، وينبعث أهل الشر على العبث والفساد . وقيل : الغاسق : الثريا ، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك ، قاله عبد الرحمن بن زيد . وقيل : هو الشمس إذا غربت ، قاله ابن شهاب . وقيل : هو القمر . قال القتبي : { إذا وقب } القمر إذا دخل في ساهوره ، وهو كالغلاف له ، وذلك إذا خسف به . وكل شيء أسود فهو غسق . وقال قتادة : { إذا وقب } : إذا غاب . وهو أصح ؛ لأن في الترمذي عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر ، فقال : " يا عائشة ، استعيذي بالله من شر هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب " . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي في تأويل هذا الحديث : وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر . وأنشد :
أراحني الله من أشياءَ أكرهُهَا *** منها العجوز ومنها الكلبُ والقمرُ
هذا يبوحُ وهذا يستضاءُ به *** وهذه ضِمْرِزٌ قوَّامةُ السَّحَرِ{[16605]}
وقيل : الغاسق : الحية إذا لدغت . وكأن الغاسق نابها ؛ لأن السم يغسق منه ، أي يسيل . ووقب نابها : إذا دخل في اللديغ . وقيل : الغاسق : كل هاجم يضر ، كائنا ما كان ، من قولهم : غسقت القرحة : إذا جرى صديدها .
{ ومن شر غاسق إذا وقب } فيه ثمانية أقوال :
الأول : أنه الليل إذا أظلم ، ومنه قوله تعالى : { إلى غسق الليل } [ الإسراء : 78 ] ، وهذا قول الأكثرين ، وذلك ؛ لأن ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الإنس والجن ، ولذلك قال في المثل : الليل أخفى للويل .
الثاني : أنه القمر . خرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى القمر فقال : " يا عائشة ، استعيذي بالله من شر هذا ، فإنه الغاسق إذا وقب " ، ووقوبه هذا كسوفه ؛ لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسواد ، وبمعنى الدخول ، فالمعنى إذا دخل في الكسوف أو إذا أظلم به .
الثالث : أنه الشمس إذا غربت ، والوقوب على هذا المعنى الظلمة ، أو الدخول .
الرابع : أن الغاسق النهار إذا دخل في الليل ، وهذا قريب من الذي قبله .
الخامس : أن الغاسق سقوط الثريا ، وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " النجم هو الغاسق " ، فيحتمل أن يريد الثريا .
السادس : أنه الذكر إذا قام ، حكى النقاش هذا القول عن ابن عباس .
السابع : قال الزمخشري : يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ، ووقبه ضربه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.