في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{أَفَلَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ} (128)

99

فإذا انتهت هذه الجولة بطرفيها أخذ السياق في جولة حول مصارع الغابرين ؛ وهي أقرب في الزمان من القيامة ، وهي واقع تشهده العيون إن كانت القيامة غيبا لا تراه الأبصار :

( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ? إن في ذلك لآيات لأولي النهي . ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى . . )

وحين تجول العين والقلب في مصارع القرون . وحين تطالع العين آثارهم ومساكنهم عن كثب ، وحين يتملى الخيال الدور وقد خلت من أهلها الأول ؛ ويتصور شخوصهم الذاهبة ، وأشباحهم الهاربة ، وحركاتهم وسكناتهم ، وخواطرهم وأحلامهم ، وهمومهم وآمالهم . . حين يتأمل هذا الحشد من الأشباح والصور والانفعالات والمشاعر . . ثم يفتح عينه فلا يرى من ذلك كله شيئا إلا الفراغ والخواء . . عندئذ يستيقظ للهوة التي تفغر فاها لتبتلع الحاضر كما ابتلعت الغابر . وعندئذ يدرك يد القدرة التي أخذت القرون الأولى وهي قادرة على أن تأخذ ما يليها . وعندئذ يعي معنى الإنذار ، والعبرة أمامه معروضة للأنظار . فما لهؤلاء القوم لا يهتدون وفي مصارع القرون ما يهدي أولي الألباب ? : ( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) !